هل التحدث إلى «نفسك» يجعلك أكثر حكمة؟

5 دقائق
تحدث, كلام, حكمة, فلسفة, ايموجي, مشاعر

مقال من «Aeon»


يقول سقراط: «الحياة دون تحديات لا تستحق العيش»، ويقول أيضاً: «معرفة نفسك هي بداية كل حكمة». لكن هل هناك طريقة صحيحة وأخرى خاطئة عند الحديث عن «التفكر الذاتي» لدى البشر؟

في الواقع، إن عملية التأمل، أو كما يعبر عنها علم النفس بأنها عملية تدوير أفكارك وهمومك في رأسك بدلاً من التركيز على الحلول؛ ليست هي الحل. فربما تجعلك تلك الطريقة تنغمس في الأفكار والمشاعر التي ستقودك في النهاية إلى الضياع تماماً. لقد أظهرت الأبحاث الحديثة أن الأشخاص الذين يستغرقون في التأمل غالباً ما يعانون من صعوبة اتخاذ القرارات لأنهم يكونون تحت ضغط نفسي، وبالتالي يصبحون أكثر عرضةً للإصابة بالإكتئاب.

وتقترح تلك الأبحاث العلمية بديلاً آخر للتأمل الذاتي يقوم على تبني أسلوب بلاغيّ قديم، يدعى «التحدث مع نفسك بصيغة المخاطب»، حيث كان يفضل استخدامه بعض الشخصيات التاريخية الشهيرة مثل «يوليوس قيصر». أول من صاغ هذا المصطلح الشاعر «صموئيل تايلور كولردج» من الكلمة اللاتينية «ille» التي تعني: هو. على سبيل المثال، يمكنك اعتبار نفسك صديقاً وتبدأ حواراً بينك وبين صديقك، كأن تقول: «ديفيد يشعر بالإحباط الآن....». الفكرة هي أن هذا التغيير البسيط في المنظور يمكن أن يساعدك في إزالة الغمامة العاطفية من أمام عينيك، مما يسمح لك برؤية الأمور بتجرّدٍ أكثر وأبعد من تحيزاتك وتجاوزها.

لقد أظهرت الكثير من الأبحاث بالفعل أن هذا النوع من التفكير الذي يعتمد على مخاطبة نفسك؛ يمكن أن يحسن قدرتك على اتخاذ القرار مؤقتاً. وقد وجد بحث حديث أولي نُشر على موقع «PsyArxiv» -المتخصص بأبحاث علوم النفس- أن هذه الطريقة يمكن أن تكون لها فوائد طويلة الأمد لطريقة تفكيرنا وتنظيم عواطفنا. يقول الباحثون إن الدراسة أظهرت لأول مرة أنه يمكن بالفعل اكتساب التوازن والحكمة المتعلقة بالعمليات المعرفية والعاطفية من خلال التمرّن عليها في الحياة اليومية، بالإضافة إلى كيفية القيام بذلك.

في الواقع، يعود الفضل في نتائج الدراسة إلى عالم النفس «إيجور جروسمان» من جامعة واترلو في كندا، حيث كانت أعماله ودراساته في علم نفس الحكمة أحد أهم المصادر التي ألهمت كتابي الأخير عن الذكاء، وكيفية اتخاذ قراراتٍ أكثر حكمة في حياتنا.

كان هدف جروسمان هو بناء قاعدةٍ تجريبية قوية تكون مرجعاً لدراسة الحكمة، والتي اُعتبرت لزمنٍ طويلٍ حقلاً يصعب الخوض فيه من ناحية التحقيق العلمي. فقد أثبت في إحدى تجاربه السابقة أنه بالإمكان قياس التفكير الحكيم، وأن درجاته مهمة بنفس درجة أهمية مقياس الذكاء «آي كيو» أيضاً. في تفاصيل تجربته، طلب من المشاركين مناقشة مشكلةٍ شخصية أو سياسية بصوتٍ عالٍ، ثم قَرن أفكارهم بالعديد من عناصر التفكير التي تعتبر أساسية للحكمة مثل؛ التفكير المجرّد، وأخذ منظور الآخرين بعين الاعتبار، والإقرار بعدم اليقين، والقدرة على التوصل إلى حلول وسط. وجد جروسمان أن تقييم درجة التفكير الحكيم أفضل بكثير من نتائج اختبارات الذكاء من ناحية التنبؤ بالرفاهية العاطفية والرضا عن العلاقات، مما يدعم فكرة أن الحكمة، وفقاً لنتائج التجربة، تشكّل بنية فريدة يمكن الاعتماد عليها لتحديد هل سنتغلّب على المشاكل التي تواجهنا في حياتنا أم لا.

عمل جروسمان أيضاً مع «إيثان كروس» من جامعة ميشيغان للبحث عن طرقٍ لتحسين هذه النتائج، من خلال إجراء بعض التجارب المذهلة التي توضح قوة فكرة مخاطبة النفس بصيغة الغائب. وبعد إجراء سلسلة من التجارب المعملية، وجد الباحثان أن الناس يميلون إلى التواضع أكثر، وبدوا أكثر استعداداً لتقبل وجهات النظر الأخرى، وذلك عندما طُلب منهم التحدث عن المشاكل بصيغة المخاطب.

تخيل مثلاً أنك تتجادل مع شريكك. قد يساعدك التفكير بمنظور الشخص الثالث على تفهّم وجهة نظره، أو قبول قصر فهمك للمشكلة المطروحة التي تتجادلون حولها. أو تخيل أنك تفكر بتغيير وظيفتك؛ يمكن أن يساعدك هذا النوع من التفكير بالنظر إلى الفوائد والمخاطر من تغيير وظيفتك بشكلٍ أكثر تجرداً وعقلانية، والابتعاد أكثر عن العواطف.

ولكن بحث جروسمان لم يتضمن سوى تدخلاتٍ قصيرة الأجل. بمعنى أنه لم يكن واضحاً حول ما إذا كان؛ هل التفكير الأكثر حكمة سيصبح عادة تدوم مع صاحبها فترة طويلة إذا تدرب على التفكير بصيغة المخاطب بانتظام أم لا.

ولمعرفة ذلك، طلب الفريق البحثي الجديد بإشراف جروسمان من 300 مشاركٍ أن يصفوا موقفاً اجتماعياً صعباً، وفي نفس الوقت قام إثنان من علماء النفس المستقلين بتقييم رد فعل المشتركين بناءً على جوانب مختلفة من التفكير الحكيم (كالتواضع الفكري، وتقبل رأي الآخر... إلخ). ثم كان على المشاركين حمل مذكراتهم لمدة 4 أسابيع وتدوين موقفٍ أو مشكلةٍ يمرون بها يومياً، مثل خلافٍ مع زميل أو بعض الأخبار السيئة. بعد ذلك طلب من نصف المشاركين وصف الموقف من وجهة نظرهم الخاصة، بينما طُلب من النصف الآخر وصف تجربتهم من وجهة نظر شخصٍ الثالث (ضمير المخاطب). في نهاية الدراسة، خضع جميع المشاركين لاختبار التفكير الحكيم مجدداً.

جاءت نتائج جروسمان كما أمل تماماً. ففي حين أن فئة المشاركين «الشاهد» لم تُظهر أي تغييرٍ في درجات التفكير الحكيم إجمالاً، أظهر المشاركون الذين استخدموا أسلوب التفكير بصيغة المخاطب تحسناً في تواضعهم الفكري وتقبل وجهات النظر الأخرى، والقدرة على إيجاد حلّ وسط.

وقد اقترحت مرحلة لاحقة أخرى من الدراسة أن هذه الحكمة التي اكتسبها المشاركون حديثاً أفادتهم في تنظيم واستقرار عواطفهم أكثر. بعد انتهاء التجربة التي استمرت 4 أسابيع، وتضمنت تسجيل يوميات المشاركين، كان عليهم خلال الشهر التالي تسجيل كيف تغيرت لديهم مشاعر الثقة أو الاحباط أو الغضب تجاه أحد أفراد العائلة أو الأصدقاء المقربين. بعد انتهاء الشهر، قاموا بالإبلاغ مرة أخرى عن كيف سارت الأمور معهم في الواقع.

وتماشياً مع الأعمال الأخرى المتعلقة بـ «التنبؤ العاطفي»، فقد بالغ الأشخاص في حالة التحكم في تقدير مشاعرهم الإيجابية، وقللوا من شدة مشاعرهم السلبية على مدار الشهر. في المقابل، دوّن المشاركون الذين اتبعوا أسلوب التفكير بأسلوب المخاطب تجربتهم في مذكرات أكثر دقة. وبعد إلقاء نظرةٍ متفحصة على تدويناتهم وملاحظاتهم، تبين أنهم استطاعوا تحييد مشاعرهم السلبية، لذلك كانت تنبؤاتهم «الوردية» أكثر دقة. يبدو أن التفكير الحكيم الذي اكتسبوه قد سمح لهم بالعثور على طُرقٍ أفضل للتأقلم مع مختلف التحديات التي واجهوها.

في الواقع، أجد أن هذه تأثيرات التجربة على العواطف والعلاقات مذهلة إلى حدٍ كبير رغم أنّه غالباً ما يُنظر إلى التحدث إلى النفس بصيغة المخاطب على أنه فعل طفولي. يمكن النظر إلى نمط تفكير بعض شخصيات المسلسلات الكرتونية -مثل «إلمو» في مسلسل الأطفال التلفزيوني «شارع سمسم»، أو شخصية «جيمي المشاغب» في المسرحية الهزلية «سينفيلد»- كنمطٍ للتفكير المتطور إلى حدٍّ ما، بينما قد يعتبر البعض الآخر نمط التفكير هذا دلالةً على الشخصية النرجسية، نقيض الشخصية الحكيمة تماماً. لقد اعتقد كوليردج أن التفكير بضمير المخاطب ليس إلَّا خدعة للتستر على أنانية الفرد. على سبيل المثال، من الانتقادات التي طالت الرئيس ترامب أنه غالباً ما يشير إلى نفسه بصيغة المُخاطب. من الواضح أن السياسيين قد يستخدمون هذا الأسلوب لأغراض بلاغية بحتة، لكن عند تطبيقها على التفكير الحقيقي، تظهر بأنها أداة قوية للتفكير الأكثر حكمة.

كما أوضح الباحثون أنه سيكون من المثير معرفة هل تنطبق فوائد هذا التفكير على أشكالٍ أخرى من مهارات اتخاذ القرار بجانب معالجة المشكلات الشخصية التي تم فحصها في دراسة جروسمان أم لا، حيث أن هناك أسبابٌ وجيهة تفيد بأن ذلك ممكناً. على سبيل المثال، أظهرت التجارب السابقة أن التأمل يؤدي إلى اختياراتٍ أسوأ في لعبة البوكر (لهذا السبب يسعى اللاعبون الخبراء إلى اتخاذ موقف مستقلٍ وبعيدٍ عن العاطفة)، وأن زيادة الوعي والتنظيم العاطفي يمكن أن يحسن اتخاذ قرار البيع والشراء في سوق الأسهم.

يستمر جروسمان حالياً في عمله لإثبات أن موضوع الحكمة يستحق إجراء المزيد من الدراسات التجريبية الدقيقة، نظراً للفائدة التي قد تعود بها على الأفراد في المجتمع. من المعروف أنه من الصعب زيادة الذكاء العام من خلال تدريب الدماغ، ولكن هذه النتائج تشير إلى أن يمكن لنا التدرب لاكتساب مهارات التفكير المنطقي الأكثر حكمة، واتخاذ القرار بشكلٍ أفضل.

Aeon counter – do not remove

المحتوى محمي