يبدو أن شهرة الدوبامين تبلغ ذروتها في عصرنا هذا. ربما قرأت عن هذه المادة الكيميائية في الأخبار أو اطلعت على المنشورات الرائجة على وسائل التواصل الاجتماعي المتعلقة "باستغلال فوائد الدوبامين" أو استمعت إلى المدونات الصوتية حول كيفية تسخير وظائف هذا الجزيء الموجود في الدماغ لتحسين الإنتاجية والحالة المزاجية. لكن الأبحاث الحديثة في مجال علم الأعصاب تشير إلى أن الطرق الرائجة للتحكم بمستويات الدوبامين مبنية على وجهة نظر ضيّقة عموماً حول وظائفه.
الدوبامين هو أحد النواقل العصبية في الدماغ، وهي جزيئات صغيرة تؤدي دور مرسالات بين الخلايا العصبية. يعرف الدوبامين بدوره في تتبع رد فعل الجسم على المكافآت مثل تناول الطعام أو إرضاء الغرائز أو الحصول على المال أو الإجابة عن الأسئلة على نحو صحيح. هناك العديد من أنواع العصبونات المفرزة للدوبامين في المنطقة العلوية من جذع الدماغ؛ تركّب هذه الخلايا الدوبامين ثم تطلقه في مختلف مناطق الدماغ. لا يعلم العلماء بعد إذا ما كان نوع العصبون المفرز يؤثّر في وظيفة الدوبامين الذي يفرزه.
تشير الأبحاث المنشورة مؤخراً إلى وجود علاقة بين نوع العصبونات المفرزة ووظيفة الدوبامين، ويؤدي أحد أنواع العصبونات المفرزة للدوبامين وظيفة غير متوقعة من المرجح أن تقلب فهم العلماء والأطباء المعالجين وعوام الناس لهذا الناقل العصبي رأساً على عقب.
اقرأ أيضاً: هل يمكن محو الذكريات المؤلمة بإعادة تعيين نقاط التشابك العصبي في الدماغ؟
نشاط العصبونات المفرزة للدوبامين
يشتهر الدوبامين بالدور الذي يؤديه في عملية معالجة المكافآت، وهي فكرة عمرها 50 عاماً على الأقل. تتحسس العصبونات المفرزة للدوبامين التفاوت بين المكافآت التي يعتقد الفرد أنه سيحصل عليها نتيجة سلوك معين، والمكافآت التي حصل عليها بالفعل. ويطلق علماء الأعصاب على هذا التفاوت اسم خطأ التنبّؤ بالمكافأة.
على سبيل المثال، إن تناول العشاء في مطعم افتُتح مؤخراً لا يبدو أنه مميز يوضّح الأثر المباشر لخطأ التنبّؤ بالمكافأة. إذا كانت الوجبة التي تناولتها في المطعم لذيذة جداً، سيكون خطأ التنبّؤ بالمكافأة إيجابياً، ومن المرجّح أن تطلب الوجبة نفسها في المستقبل. في كل مرة تعود فيها إلى المطعم نفسه، ينخفض خطأ التنبؤ بالمكافأة حتى يصل في النهاية إلى صفر عندما تتوقع تناول عشاء لذيذ دون شك. ولكن إذا لم تكن الوجبة التي تناولتها لذيذة، سيكون خطأ التنبؤ بالمكافأة سلبياً، ولن تتناول الطعام في هذا المطعم مجدداً على الأرجح.
تنقل العصبونات المفرزة للدوبامين معلومات أخطاء التنبؤ بالمكافأة إلى الدماغ من خلال تغيير معدلات إفراز الدوبامين وأنماط إفرازه، ويستخدم الدماغ هذه المعلومات للتعلّم. تنشط هذه العصبونات بطريقتين.
يشير النشاط الطوريّ إلى دفعات الإشارات العصبية السريعة التي تتسبب بارتفاع أقصى قصير المدى في نسب الدوبامين. يحدث ذلك عندما يتلقّى الدماغ مكافأة غير متوقعة أو عدداً أكبر من المتوقع من المكافآت، مثل أن يعرض عليك النادل في المطعم تحلية مجانية أو يضيف ملاحظة لطيفة أو يرسم وجهاً مبتسماً على الفاتورة. يشفّر النشاط الطوريّ أخطاء التنبؤ بالمكافأة.
على النقيض من ذلك، يصف النشاط المستدام النشاط البطيء والمطّرد للعصبونات المفرزة في غياب المفاجآت، وهو نشاط يحدث في الخلفية وتتخلله دفقات من النشاط الطوريّ. يشبه النشاط الطوري قمم الجبال، بينما النشاط المستدام هو قيعان الوديان بين القمم.
وظائف الدوبامين
لا تقتصر وظائف الدوبامين على تتبع المعلومات المستخدمة في توليد أخطاء التنبؤ بالمكافأة. درستُ باهتمام وظائف الدوبامين الأخرى جميعها من خلال أبحاثي الخاصة التي قست فيها نشاط المناطق الدماغية التي توجد فيها العصبونات المفرزة للدوبامين لدى البشر.
منذ نحو 15 عاماً، بدأت تُنشر الدراسات العلمية التي تُبيّن أن العصبونات المفرزة للدوبامين تستجيب للأحداث المنفّرة، مثل الإزعاجات الوجيزة مثل نفخة من الهواء على العين أو صدمة كهربائية خفيفة أو خسارة المال، وهي وظيفة اعتقد العلماء من قبل أنها لا تتعلق بالدوبامين. بيّنت هذه الدراسات أن بعض العصبونات المفرزة للدوبامين يستجيب فقط للمكافآت، بينما يستجيب البعض الآخر لكل من المكافآت والتجارب السلبية، ما أدّى إلى وضع فرضية تنص على أنه من المحتمل أن الدماغ يحتوي على أكثر من نظام مسؤول عن الدوبامين.
اقرأ أيضاً: ما تحتاج إلى معرفته عن استجابة الكر والفر وكيف يتفاعل الجسم مع المخاطر
سرعان ما أعقبت هذه الدراسات تجارب أظهرت أن هناك أكثر من نوع من العصبونات المفرزة للدوبامين. حتى الآن، اكتشف الباحثون 7 أنواع مختلفة من العصبونات المفرزة للدوبامين من خلال النظر في سجلّها الوراثي.
نُشرت دراسة حديثة في أغسطس/آب 2023 وكانت الأولى التي تحلل وظيفة الدوبامين بناءً على النوع الفرعي للعصبونات. درس الباحثون في مختبر دومبيك التابع لجامعة نورث وسترن 3 أنواع من العصبونات المفرزة للدوبامين ووجدوا أن نوعين منها يتتبعان المكافآت والأحداث المنفّرة، بينما يستجيب النوع الثالث للحركة، مثل بدء الفئران التي درسها الباحثون بالجري بسرعة أكبر.
إفراز الدوبامين
تعتمد طرق التحكّم بتأثيرات الدوبامين التي انتشرت مؤخراً على نوع الإفراز الذي يبدو مثل القمم والقعور فقط. عندما ترسل العصبونات المفرزة للدوبامين الإشارات في دفعات طورية، مثل نشاطها لإرسال الإشارات المتعلقة بأخطاء التنبؤ بالمكافأة، يُفرَز الدوبامين في مختلف مناطق الدماغ. تحدث هذه الذروات في نسب الدوبامين بسرعة كبيرة لأن العصبونات المفرزة يمكن أن تطلق الإشارات عدة مرات في أقل من ثانية واحدة.
ولكن هناك طريقة أخرى يُفرز وفقها الدوبامين؛ إذ يزداد معدّل إفرازه ببطء أحياناً حتى يحصل الشخص على مكافأة مرغوبة. اكتشف الباحثون هذا النمط المتصاعد منذ 10 سنوات في جزء من الدماغ يحمل اسم الجسم المخطط. تعتمد شدّة تصاعد الدوبامين على أهمية المكافأة وعلى الجهد المطلوب للحصول عليها. بتعبير آخر، هو يشفّر الدوافع.
يمكن أن يوضح مثال المطعم أيضاً ما يحدث عندما يُفرز الدوبامين وفق النمط المتصاعد هذا. إذا طلبتَ وجبة تعلم أنها ستكون لذيذة وترقّبت وصولها، ستزداد مستويات الدوبامين في الدماغ على نحو مطّرد. تصل هذه المستويات إلى ذروتها عندما يضع النادل الطبق على طاولتك وتتناول اللقمة الأولى منه.
لا يعلم العلماء الآلية الكامنة وراء تصاعد الدوبامين بعد، ولكن يُعتقد أن هذا النوع من الإفراز أساسي في السلوكيات، مثل التعلّم والسعي لتحقيق الأهداف. ستؤثر الأبحاث المستقبلية حول تصاعد الدوبامين في فهم العلماء للدوافع، كما ستؤدي في النهاية إلى زيادة دقة النصائح المتعلقة بكيفية الاستفادة من الدوبامين على النحو الأمثل.
الدوبامين وعلاقته بالأمراض والتنوّع العصبي
على الرغم من أن ارتباط الدوبامين بإدمان المخدرات وأمراض التنكّس العصبي والحالات الصحية المتعلقة بالنمو العصبي (مثل اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط) معروف، تُبيّن الأبحاث الحديثة أن العلماء يدركون حاجتهم إلى تعديل فهمهم لدوره قريباً. اكتشف الباحثون وظيفة 3 أنواع فرعية فقط من الأنواع السبعة من العصبونات المفرزة للدوبامين المعروفة حتى الآن.
اقرأ أيضاً: هل يومض شريط الذكريات قبل الوفاة؟ مسح نادر لدماغ بشري يحتضر
هناك بالفعل أدلة تبيّن أن اكتشاف الأنواع المتعددة للدوبامين يحسّن فهم العلماء للأمراض. يشير مؤلفو الدراسة الجديدة، الذين كشفوا العلاقة بين نوع العصبونات المفرزة للدوبامين ووظيفة هذه العصبونات، إلى أن العصبونات المفرزة التي تستجيب للحركة معروفة بأنها تتأثر أكثر من أي نوع آخر بمرض باركنسون، في حين أن النوعين الآخرين لم يتأثرا بالقدر نفسه. قد يؤدي فهم الفرق في التأثّر إلى تطوير علاجات جديدة تستهدف هذه العصبونات بدقة أكبر.
من المرجح أن تستمر الأبحاث الجارية التي تكشف تنوّع الدوبامين في التغيّر، وفي تحسين فهمنا للأمراض والتنوّع العصبي.