يعد مسلسل «المكان الجيّد - The Good Place» -الذي تعرضه قناة «إن بي سي» الأميركية- نوعاً من الفانتازيا الكوميدية. حقق المسلسل نجاحاً في مواسمه الأربعة التي اختتمت مؤخراً. يعرض المسلسل مغامرات وحوادث تتمحور حول حياة 4 أشخاص أنانيّون، يسعى كل واحد منهم ليصبح شخصاً أفضل وأطيب، وغير أناني.
ولكّن السؤال الأعمق الذي تطرحه هذه الكوميديا التي تكتسب طابعاً فلسفياً: هل يمكن للناس أن يكونوا غير أنانيين بالفعل؟
المصطلح التقني لهذا السلوك هو الإيثار، وهو الرغبة في مساعدة الآخرين حتى لو كان ذلك على حساب رفاهيتك. وإذا كان الجواب على ذلك السؤال هو نعم، فهل الأنانيون قادرون فعلاً على التحول لأشخاص طيبين وغير أنانيين؟
أعمل طبيباً نفسياً وأعتمد على علوم الإدراك (الدراسة العلمية للعقل أو الذكاء) لفهم كيفية اتخاذ الناس لقراراتهم، وأتحرّى مع فريقي في جامعة «أوريجون» عن سبب تصرّف الكثير منا بإيثار، وهل يصبح البشر أكثر إيثاراً مع تقدّمهم بالعمر، وهل من الممكن أنّ يكون الإيثار قيمة يمكن للناس اكتسابها بالفعل؟
حيرة الفلاسفة
هل يقوم النّاس بأفعال تدل على الإيثار بسبب طبيعتهم الكريمة، أم لدوافع خفيّة؟ سؤال لطالما حيّر الفلاسفة والمفكرين الدينيين وعلماء الاجتماع لقرون عديدة، لأن الأنانية على ما يبدو يمكن أن تلهم المرء بالقيام بأعمالٍ إيثارية.
على سبيل المثال، قد يتبرع الناس بالمال للتفّاخر بثرائهم، أو الظهور بمصداقية أو الشعور بالرضا عن أنفسهم ببساطة.
حتى «باميلا هيرونيم»، عالمة الفلسفة في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، والتي تعمل كمستشارة غير رسمية للمسلسل الذي ذكرناه آنفاً؛ أعربت عن تشككها حول إذا ما كان بمقدور أيّ شخص أن يتحوّل من الأنانية إلى الإيثار.
أنماط الدمّاغ
كيف يدرس العلماء -مثلي- ما يدور في عقول الناس؟
أجرى فريقي سلسلة من التجارب على مشاركين باستخدام تصوير الرنين المغناطيسي، حيث ينظر المشاركون خلال التجارب إلى شاشة تعرض لهم سيناريوهات مختلفة. كان أحد السيناريوهات إخبارهم بأنّه تم تحويل مبلغ 20 دولاراً إلى حساباتهم المصرفية، وآخر كان يقول أن المبلغ نفسه سيتم تحويله إلى مؤسساتٍ خيرية. كان المشاركون يشاهدون هذه التحويلات المالية على الشاشة أمامهم، سواء لهم أو للمؤسسات الخيرية دون أن يكون بمقدورهم التدخّل في الأمر.
في الوقت نفسه، كنا نقوم بمسح الجزء من الدماغ الذي يسميه علماء الأعصاب «مراكز المكافأة في الدمّاغ»، وتحديداً النواة المتكئة.
تلعب هذه المنطقة -أكبر قليلاً من حجم حبّة الفول السوداني- دوراً مهماً في كل شيء بدءاً من الإشباع الجنسي إلى إدمان المخدرات، والمواقع العصبية ذات الصلة، وتصبح نشطة عندما يحدث شيء ما يجعلك سعيداً وترغب في تكراره في المستقبل.
أثناء التجربة، حفّزت فكرة تحويل الأموال إلى المؤسسات الخيرية نشاط مناطق المُكافأة في الدماغ لدى الكثير من المشاركين. ونجادل هنا بالنسبة لهذه الملاحظة أن سبب ذلك يعود إلى طبيعة الإيثار الحقيقي لدى الناس. فقد شعروا بالمكافأة عندما أصبح الشخص المحتاج للمال أفضل حالاً، حتّى ولو لم يفعلوا هم أنفسهم شيئاً لمساعدتهم، وصنع فرق بشكل مباشر.
وقد وجدنا أن النشاط في مناطق المكافأة كان أقوى لدى حوالي نصف المشاركين عندما ذهبت الأموال إلى المؤسسة الخيرية، أكثر مما كان عليه عندما ذهبت الأموال إلى حساباتهم المصرفية الشخصية. وقد اعتبرنا أنه يمكن تصنيف هؤلاء الأشخاص من الناحية العصبية كأشخاصٍ يتّصفون بالإيثار.
بعد ذلك، وفي مرحلة منفصلة من التجربة، أعطي جميع المشاركين خيارين؛ إما التبرع بجزء من أموالهم، أو الاحتفاظ به لأنفسهم. كان احتمال التبرع بالمال من المشاركين الذين صنفناهم بأن لديهم صفة الإيثار من الناحية العصبية؛ ضعف الاحتمال لدى البقيّة. نعتقد أن هذا الاكتشاف في الواقع يشير إلى أنّ دوافع الإيثار البحتة قد تكون السبب في سلوك الإيثار، وأنّه يمكن لتصوير الدمّاغ أن يكشف تلك الدوافع.
التقدم في العمر والإيثار
في دراسة أخرى أجريناها أنا وزملائي متعلقة بنفس الموضوع، كان هناك 80 مشاركاً تتراوح أعمارهم بين 20 و 64 عاماً، ولكن كان بالإمكان مقارنتهم استناداً إلى خلفياتهم. وجدنا أن نسبة الإيثار -أي أولئك الذين نشطت مناطق المكافأة في الدماغ لديهم أكثر عندما ذهبت الأموال إلى المؤسسة الخيرية، بدلاً من تحويلها إلى حساباتهم- تزداد بشكل طردي مع التقدم في العمر، حيث قفزت من أقل من 25% حتى سن 35 إلى حوالي 75% بين الأفراد التي بلغت 55 عاماً فأكثر.
وقد وجدنا أيضاً أن المشاركين الأكبر سناً يميلون لأن يصبحوا أكثر استعداداً للتبرع للأعمال الخيرية، أو التطوّع في هذه التجربة. وعند تقييم خصائصهم الشخصية من خلال الاستبيانات، ووجدنا أنهم أظهروا صفاتاً مثل الطيبة والتعاطف بشكلٍ أكبر مما كان لدى المشاركين الأصغر سناً.
تتوافق هذه الملاحظات مع الأدلة المتزايدة التي تشير إلى أن كبار السن يميلون أكثر للسلوكيات الإيثارية. على سبيل المثال، يتبرع كبار السنّ -60 عاماً وأكثر- من رواتبهم أو معاشاتهم للأعمال الخيرية بنسبة تصل 3 أضعاف ما يتبرّع أولئك الذين تبلغ أعمارهم 25 عاماً. هذا مؤشّر مهم بالرغم من احتمال امتلاكهم أموالاً أكثر من الشباب عموماً، مما قد يجعل من السهل التبرع بجزء منه.
تشير الدراسات إلى أنّ كبار السن -60 عاماً وما فوق- يميلون أكثر للانضمام إلى عضوية الجمعيات التطوعية، حيث تقدم خدماتها لأفراد المجتمع بنسبة 50% من الشباب، وإلى أنّ احتمال مشاركتهم في الانتخابات العامّة هو ضعف احتمال تصويت الشباب أيضاً.
لكن نتائج دراستنا هي الأولى من نوعها التي تثبت بوضوحٍ أنّ كبار السن لا يتصرّفون ليظهروا بصورة ألطف مدفوعين بدوافع أنانية مثل؛ رغبتهم في أن تذكر أعمالهم بفخر بعد رحيلهم مثلاً. لكن الحقيقة هي أن مناطق المكافأة لديهم أكثر استجابة بكثير لتجربة مساعدة المحتاجين، مما يشير إلى أنهم في الواقع وبشكلٍ عام، أكثر لطفاً واهتماماً بصدقٍ برفاهية الآخرين بخلاف بقيّة أفراد المجتمع.
الطريق أمامنا
تثير هذه النتائج الكثير من الأسئلة الإضافية الهامة التي طرحناها في مقالٍ نشرناه في الدورية الأكاديمية بعنوان: «الاتجاهات الحالية في علم النفس»، والتي ينبغي الإجابة عليها. على سبيل المثال، هناك حاجة لإجراء بحث إضافي يتم من خلاله متابعة الأشخاص مع تقدّمهم في العمر، من أجل التحقق من أن فارق السن في الإيثار يعكس النضج الشخصي، والأمر ليس مجرّد اختلافات بين الأجيال. كما نحتاج أيضاً إلى تعميم نتائجنا على عيناتٍ أكبر من خلفيات أكثر تنوعاً.
الأهم من ذلك، أننا لا نعرف حتى الآن لماذا يبدو كبار السن أكثر سخاءً وإيثاراً من الشباب. نحن وزملائي نخطط للبحث حول تأثير العمر، بشكل أكثر دقة قلة السنوات المتبقية في العمر -في حال كبار السن- هل يجعلهم أكثر اهتماماً بالصالح العام أم لا.
بالنسبة للشخصيات الرئيسية في مسلسل «المكان الجيد»، فإن الرحلة نحو الإيثار وتفضيل الآخرين هي رحلة شاقة ومليئة بالمتاعب والمشاكل، بينما في الحياة الواقعية، قد يكون ذلك ببساطة جزءاً طبيعياً من التقدم في العمر.