في ذكرى رحيله: ماذا قدمت تجارب إيفان بافلوف ونظرياته لعلم النفس؟

4 دقائق
تجربة بافلوف
حقوق الصورة: شترستوك.

لم يكن مرضاً جديداً ما اكتشفه، بل ظاهرة ذات أهمية عالمية؛ أرست قواعد العلاج السلوكي الحديث: وسُميت (منعكس بافلوف). من اكتشافه العرَضي، ابتكر العالم الروسي إيفان بافلوف نظرية التّعلم التي لا تزال صالحةً حتى يومنا هذا. على الرّغم من ذلك، لطالما أصرّ بافلوف على توصيفه  بالعالم الفيزيولوجي ورفض لقب عالم النفس، وتعامل مع قضايا كالذهان وجنون الارتياب من منطلقٍ علميٍّ. 

وفي ذكرى رحيل إيفان بافلوف، من هو؟ وما هي تفاصيل تجربته الشهيرة على الكلاب؟ وأهميتها في مجال الطب النفسي والعصبي؟

إيفان بافلوف: من اللاهوتية إلى العلم

ينحدر (إيفان بتروفيتش بافلوف) من عائلة دينية، حيث سخّر كلٌّ من والده وجده نفسيهما لخدمة الكنيسة. وهو ما كان مُنتظراً أيضاً من بافلوف، المولود عام 1849. ولكن، بعد أن التحق بافلوف بالمدرسة اللاهوتية بعمر 11 عاماً، وانتشار العقلية الإصلاحية في عموم أرجاء روسيا، وقراءته للمؤلفات المترجمة لعالمي وظائف الأعضاء (كلود برنارد) و(جورج هنري لويس) وعالم الفيزياء (إيفان سيتشينوف)، أثار الجسم البشري بما يحدث فيه من عملياتٍ اهتمامه.

تحوّل بافلوف إلى دراسة العلوم الطبيعية، في جامعة سانت بطرسبرغ، واختص بالكيمياء وعلم وظائف الأعضاء. بدأت مسيرته المهنية، بعد نيله شهادة الدكتوراه في الطب عام 1883، بالعمل في ألمانيا بمختبرات عالم التشريح الألماني (كارل لودفيج) في لايبزيغ وعالم وظائف الجهاز الهضمي (رودولف هايدنهاين) في بريسلاو. اكتسب في هذه المختبرات مهارة الجراحة. بعد أن أصبح جراحاً ماهراً، عاد بافلوف ليشغل منصب أستاذ لعلم وظائف الأعضاء في الأكاديمية الطبية الإمبراطورية في سانت بطرسبرغ.

توفي في 27 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1936، عن عمر ناهز 86 عاماً.كرّس بافلوف حياته، في آخر 45 عاماً منها، لدراسة ردود الفعل الشرطية (منعكس بافلوف) عن طريق التحقيق في ردود فعل الكلاب كطريقة لفهم تجربة البشر الذاتية. حاز على جائزة نوبل 1904 عن عمله في علم وظائف الجهاز الهضمي، ليصبح أوّل روسيٍّ حائزٍ على جائزة نوبل.

اقرأ أيضاً: تؤثر ذكرياتنا المؤلمة على رؤيتنا للحياة، وإليك تفسير ذلك

تجربة بافلوف الشهيرة على الكلاب: منعكس بافلوف

ربما سمع معظمنا بتجربة بافلوف الشهيرة على الكلاب والجرس ، فكيف حدثت؟ كما في العديد من الاكتشافات، توصّل بافلوف لاكتشافه بمحض الصدفة؛ فخلال دراسته لإفراز الكلاب للعاب أثناء الهضم، لاحظ أن إفراز اللعاب يبدأ قبل أن يصل الطعام إلى فم الكلب، وبمجرّد سماع الكلب لصوت خطى مساعده الذي يقدّم الطعام للكلاب، كاستجابةٍ استباقيّةٍ لمحفّزٍ خارجيٍّ.

ابتكر بافلوف تجربته الخاصة بتجريب عدّة محفزاتٍ أخرى، كصوت فتح الباب وجرس خاص والصدمات الكهربائية والوميض الضوئي، لمعرفة كيف أدى التعلّم الترابطيّ للكلاب إلى توقّع وقت التغذية غريزياً كلما واجهت محفزاً صوتياً أو مرئياً معيناً.

 زرع بافلوف أنابيباً في الغدد اللعابية لكلاب التجربة؛ لمراقبة مستويات إفراز اللعاب فيها، ثم قيّدها ووضع أمامها وعاء طعامٍ خاص. في البداية، لم تدفع المحفزات المحايدة الكلاب إلى أيّة نوعٍ من الاستجابة، إلا أنه وبعد تزامن المحفز الخارجي مع تقديم الطعام إليها، بدأت الكلاب في تجربة بافلوف بتكوين ردّ فعلٍ استباقيٍّ؛ كان عبارة عن إفراز اللعاب كلّما سمعت أو أحسّت بالمنبه الخارجي. حيث ربطت الكلاب هذا المنبه بالحصول على الطعام.

اقرأ أيضاً: هل يمكن أن يستفيد البشر من النحل في تحسين عملية التعلم؟

نظرية التكييف التقليدي لبافلوف

قادت تجربة بافلوف وعمله في علم الأعضاء إلى توضيح أسس عملية التعلم المعروفة الآن باسم التكييف التقليدي، أحد أهمّ مفاهيم علم النفس، والبذرة الأولى لعلم النفس السلوكي لاحقاً.

حدد بافلوف في تجربته نوعين من الاستجابة في الكائن الحي:

  1. الاستجابات غير المشروطة أو ردود الفعل.
  2. الاستجابات المشروطة (المكتسبة).

في تجربة بافلوف، شكل سيلان لعاب الكلاب كاستجابة للطعام استجابة تلقائية غير مشروطة نتيجة محفز غير مشروط، وهو رد فعل طبيعي (غير مكتسب) للمحفز، فقبل التكييف لم يسل لعاب الكلب لدى سماعه لصوت الجرس.

في التكييف التقليدي، ربط الكلب صوت الجرس بتقديم الطعام إليه، لذلك شكل المنبه حافزاً مشروطاً بعد اقترانه بالمحفز غير المشروط (الطعام)، وشكل سيلان لعاب الكلب بعد سماعه الجرس استجابة مشروطة (مكتسبة).

طبق بافلوف نظرية التكييف التقليدي على أنواع أخرى بما في ذلك البشر. على سبيل المثال، قد يربط الطفل رؤيته لمفاتيح السيارة بنزهته إلى مطعمه المفضل، فيشعر بالحماس ويسيل لعابه أيضاً. ويوضح، تتعلم الكائنات الحية ربط الأحداث أو المنبهات التي تحدث معاً بشكل متكرر، وهو ما يحدث معنا بشكل يوميٍّ. كما في ربط  ضوء البرق بصوت الرعد القوي والمخيف، ما يجعل البعض يشعر بالخوف بمجرّد رؤية البرق وقبل سماع صوت الرعد. من هنا بدأ العلماء بالتساؤل إن كان من الممكن تدريب محفز مختلف لتحفيز نفس رد الفعل.

اقرأ أيضاً: هل تساعدنا الحيوانات الأليفة في التخلص من الإجهاد الوبائي؟

مساهمات بافلوف في علم النفس: نقل النموذج إلى الإنسان

على الرغم من إصرار بافلوف على أنه عالم فيزيولوجي، إلا أن لتجاربه ونظرياته حول التعلّم دور أساسي في علم النفس السلوكي، كما نعرفه اليوم، فقد عارض فرضيات فرويد حول تأصّل سلوكيات البشر في العقل الباطن، بل ربط معظمها، وفقاً لاستنتاجاته، بالتجارب الشخصية وبالعقل الواعي. وهو ما ساعد في تفسير الذهان البشري والرهاب، فحدد خصائص التثبيط المفرط للأشخاص الذين يعانون من الذهان النشط على أنها ميل لحماية أنفسهم، ووضّح أنّ ميلهم للعزلة عن العالم كان ردّ فعلٍ على الضوضاء والنشاط الذي يحفّزهم بشكل مبالغ، وكانت النتيجة أن أصبح تخفيف المحفز الخارجي باستبداله ببيئات هادئة أساساً في علاج مرض الرهاب في روسيا.

كذلك الأمر، بالنسبة للرّهاب، فقد يشعر الفرد بالدوار لدى وقوفه بمكان مرتفع والنظر للأسفل، إذ ترتبط المرتفعات لديه بشعور الدوار والخوف من السقوط، ويصاب برهاب المرتفعات. ولعلاج المصابين بالرهاب، يعتمد المعالج على تشجيع المريض لمواجهة خوفه ورهابه بطريقة هادئة ومريحة، وبالتالي تغيير الارتباط. تُعرف هذه التقنية بإزالة التحسس المنهي والذي يعتمد على نظرية التكييف التقليدي لبافلوف.

اليوم، وفي ذكرى رحيل إيفان بافلوف الـ 86، تستمرّ تجاربه وأعماله، بين الطب وعلم النفس وعلم وظائف الأعضاء والتربية، في إلهام العلماء نحو المزيد من الأبحاث والتجارب، وفي فهمنا للسلوك البشري.

المحتوى محمي