تهاجر أسراب مهيبة من الفراش الملكي كل عام، من روافد الأنهار من كندا وشمال الولايات المتحدة شتاءً جنوباً، حتى سواحل خليج المكسيك. تقطع خلال هذه الرحلة نحو 4 آلاف كيلومتر. أثارت رحلة هذه الفراشات الغامضة ذهول العلماء في جوانب عدَّة، بدءاً من كيفية تشكّلها في مرحلة اليرقة، وصولاً إلى مرحلة الفراشة المُجنّحة البالغة، والمكان الذي تنتهي إليه في نهاية رحلتها. ظهر بحثٌ جديد في دورية «نيتشر» يشرح أحد جوانب تلك الرحلة الغامضة، وبالتحديد كيفية تطوير هذه الحشرات قدرتها لتكون سامّة، بحيث تدفع المُفترسات لتجنبها أثناء رحلتها الطويلة.
عندما تكون الفراشة الملكية في طور اليرقة؛ تتغذى على أنواعٍ من الحشائش اللبنية السامة. ومن شأن سموم هذه الحشائش أن تقتل أغلب الحيوانات التي تفكّر في تناولها؛ لأنها تنتج «جليكوسيدات» سامة، تؤثر على القلب مباشرة. تقوم هذه السموم بتعطيل مضخّات الصوديوم (بروتين خلوي)، التي تستخدمها الخلايا لتنظيم مستويات الأملاح مع الوسط المحيط، مما قد يؤدي إلى حدوث سكتة قلبية لدى تلك الحيوانات.
لكن الفراش الملكي لا يهضم تلك السموم إطلاقاً. ففي عملية تُدعى «العزل»؛ يقوم بحمل تلك المادة السامة (الجليكوسيدات القلبية) في جسمه عندما يحيط نفسه بالشرنقة، وصولاً إلى مرحلة الفراشة البالغة لتطير في النهاية.
لقد طوّرت الحشائش اللبنية قدرتها على إفراز مواد سامةٍ لتُبعد عنها معظم الحشرات، لكن قدرة الفراشات الملكية على تناول هذه السموم دون أن تؤثر فيها -إلى جانب 20 نوعاً آخر من الحشرات-؛ منحها الوصول إلى مصدر الغذاء هذا دون منافسةٍ كبيرة من الحشرات الأخرى، وأَكسبها أيضاً سُمّية تُبعد عنها المفترسات المحتملة.
هناك على الأقل بعض الآثار المترتبة على استهلاك سموم الأعشاب اللبنية هذه في معظم الحشرات التي تتناولها. ومقاومة هذا السّم قد يتطلب طاقة تستنفذها الحشرات، يمكن أن تستخدمها في أمورٍ أخرى كالتكاثر والبحث عن الطعام. لكن الفراشة الملكية تُعتبر الأكثر كفاءةً من بينها على التعامل مع سموم الأعشاب اللبنية. ومن هنا يمكن شرح السبب الذي يقف وراء محاولة إدخال هذه الصفة الوراثية التي تحملها هذه الفراشات إلى «ذبابة الفاكهة».
استخدم الباحثون تقنية «كرسيبر» -التي تُستخدم لتعديل الجينات- للتحريض على حدوث 3 طفرات في جينٍ واحدٍ عند ذبابة الفاكهة، يتحكّم بمضخَّة الصوديوم. وقد درس العلماء من قبل اثنتين من هذه الطفرات عند الفراش الملكي، ولم تتقبل أجسام ذباب الفاكهة هاتين الطفرتين، وأصبحت أكثر عرضة للموت بسرعة كبيرة. فلجأ الباحثون إلى إضافة طفرةٍ ثالثة أخرى -لم تُحدد سابقاً- إلى هذا المزيج من الطفرات، مما حدّ من التأثير السلبي للطفرتين السابقتين.
يقول «ماركوس كرونفورست»، عالم البيئة بجامعة شيكاغو: «تمكنا من خلال تجريب الطفرات واحدة تلو الأخرى من استعراض شريط التطور كله، الذي كان ينبغي أن تسلكه الجينات للوصول إلى هذه المرحلة؛ لأن الطفرات يجب أن تحدث في تسلسلٍ محدد لتجنب موت الذباب قبل أن نتمكن من إدخال تلك الميزة الفائقة، التي تمنحها مقاومة سموم النباتات».
لقد تبين خلال التجارب أن الفراش الملكي الذي أُحدِثت لديه 3 طفراتٍ جينية؛ يمتلك قدرةً على مقاومة سموم النباتات اللبنية تماثل التي تمتلكها الفراشات العادية غير المُطفَّرة. وهو أقل حساسية لها بمقدار 1000 مرة من أقرانها من الفراشات البرية. وكانت قادرة أيضاً على حمل أو عزل السّم معها من مرحلة اليرقة حتى مرحلة الفراشة الكاملة. لسوء الحظ لا يمر ذباب الفاكهة بمرحلة اليرقة، وإنما يتطور من ديدان إلى ذبابة كاملة. إنها المرة الأولى التي تستخدم فيها تقنية «كريسبر» لتطوير سمة محددة؛ وهي مقاومة السموم خطوة بخطوة.
كتبت «ناعومي بيرس»، عالمة الأحياء التي تدرس الفراشات في جامعة هارفارد، في رسالة بالبريد الإلكتروني لدورية «بوبيولار ساينس»: «لا يبين البحث طريقة عمل الطفرات الثلاثة معاً لمنح الفراش الملكي القدرة على التغذية على الأعشاب السامة وحسب، بل إنه يكشف أيضاً المراحل التطورية خطوة بخطوة منذ البداية التي مرّت فيها الفراشة الملكية، لتصبح سامة في النهاية. إنها ورقة بحثية مثيرة للاهتمام وجميلة حقاً أيضاً».
وبالرغم مما كشفته هذه الدراسة البحثية، فإن هناك بعض المحاذير والنتائج غير المرغوبة، تتعلق باستخدام تقنية كريسبر في إحداث الطفرات لدى الحيوانات، كما يذكر مؤلف الدراسة وعالم الأحياء في جامعة كاليفورنيا «نوح وايتمان». فقد كانت ذبابة الفاكهة التي أُحدثت فيها الطفرات الثلاثة حساسة للحركة الخارجية. فعندما تطرق على أنبوب الاختبار الذي تطير بداخله الذبابة، فإنها تسقط وتستغرق نحو دقيقتين للطيران مجدداً، ولا يزال «وايتمان» وفريقه يعملون على استيضاح سبب عدم حدوث ذلك عند الفراشات الملكية.
يقول وايتمان: «إن هناك احتمالاً أن تكون تقنية كريسبر قد أحدثت طفراتٍ عشوائية أخرى غير مرغوبة لم يتم التعرف إليها، إلى جانب الطفرات التي سعى الفريق للتحريض عليها».
إن هذا تذكير صارخ بأننا ما زلنا بعيدين جداً عن حل جميع المشاكل التي نواجهها عن طريق الهندسة الوراثية. يقول وايتمان: «على الرغم من أن ذبابة الفاكهة المُعدّلة وراثياً اكتسبت قدرة فائقة على مقاومة سموم الأعشاب الضارّة، فإنها في الواقع مريضة جداً».