تعتمد الحشرات مثل النحل والفراشات على حاسة الشم القوية للعثور على الأزهار وتلقيحها، ولنحصل بالتالي على الأطعمة التي نحتاجها من محاصيل وخضروات وفواكه في حدائقنا.
يقول روبي جيرلينج، الأستاذ المشارك في علم البيئة الزراعية بجامعة ريدينج في المملكة المتحدة: «إن حاسة الشم لدينا متخلفةٌ مقارنة بحاسة الشم لدى معظم الكائنات الحية الأخرى. تستخدم الملقحات، على سبيل المثال، الروائح لتوجيه نفسها والتحرك والتواصل مع بعضها بعضاً».
لكن جيرلينج، إلى جانب باحثين آخرين في جامعة ريدينج، ومركز المملكة المتحدة للبيئة والهيدرولوجيا وجامعة برمنغهام، وجدوا أن ملوثات الهواء يمكن أن تضلل الملقحات. فقد أظهرت دراسة نشروها يوم 19 يناير/ كانون الثاني الجاري في دورية «إنفايرومينتال بوليوشن» أن عوادم الأوزون والديزل تقلل بشكل كبير من تواجد الملقحات وعدد المرات التي تزور فيها النباتات وعدد البذور التي تنتجها.
الملوثات تغير رائحة الزهور
لقد أظهرت الأبحاث السابقة أن الملوثات الشائعة مثل عوادم الأوزون والديزل تغير رائحة الزهور وتصعّب على الحشرات العثور على النباتات. ولكن لا توجد أدلة كثيرة حتى الآن على كيفية تأثير ذلك على معدلات التلقيح.
ويقول جيمس ريالز، الذي بدأ مشواره البحثي في مؤسسة ليفرهولم ترست، والزميل في جامعة ريدينغ وأحد مؤلفي الدراسة: «تشم بعض الحشرات الرائحة في البداية عندما تصل المركبات الكيميائية التي تطلقها الأزهار إلى قرون استشعارها، ثم تقوم بتتبع أثر الرائحة كدليل يقودها إلى النباتات التي تطلقها».
ويقول جيرلينج: «بعد أن تتغذى الحشرات، مثل نحل العسل، على الرحيق، تكتسب خبرةً في تمييز المركبّات التي تؤدي إلى الأزهار المغذية أكثر، وتذهب إليها مثل كلب بافلوف. لكن الأوزون، وهو منتج ثانوي لانبعاثات المصانع والمركبات، وعوادم الديزل يمكن أن يفسد هذه الروائح». ويقول ريالز في هذا الصدد: «يمكن أن تفسد الملوثات الإشارة التي توفرها هذه الروائح، لذلك قد لا تتمكن الحشرات من العثور على الأزهار المناسبة بعد ذلك مطلقاً».
لذا شرع جيرلينج وريالز في محاولةٍ لفهم تأثيرات عوادم الأوزون والديزل على الحشرات والتلقيح في البيئة الطبيعية. في السابق، جرت جميع الدراسات حول هذا الموضوع في المختبر. في مزرعة جامعة ريدينغ، وضع الباحثون حلقات مثمنة يبلغ طولها نحو 8 أمتار. في كل من هذه الحلقات، قاموا بضخ الأوزون أو عوادم الديزل أو مزيج من الاثنين أو لا شيء على الإطلاق. كما احتوت الحلقات على نباتات الخردل الأسود. كانت الأبحاث السابقة قد أظهرت أن الملوثات تؤثر على الرائحة العطرية لهذا النوع.
كانت الحلقات مفتوحة على الهواء الطلق للسماح للحشرات المحلية بالوصول إليها. سجل الفريق عدد المرات التي دخلت فيها الملقحات مثل النحل والذباب والفراشات والعث الحلقات لزيارة أحد أزهار نبات الخردل. كانت النتائج متباينة جداً. في الحلقات التي تحتوي على مزيج من عوادم الأوزون والديزل، انخفض وجود الملقحات بنسبة 70% مقارنة بالحلقات الخالية من الملوثات؛ كما انخفض عدد المرات التي زارت الحشرات فيها الزهور بنسبة 90%.
اقرأ أيضاً: لماذا تمتلك الأزهار روائحَ؟
أمننا الغذائي في خطر
كما وجد الباحثون أيضاً انخفاضاً بنسبة 31% في معدل التلقيح، وذلك عن طريق قياس عدد البذور التي تنتجها النباتات في ثمارها. كما لاحظوا أن لملوثات الهواء تأثيراً مباشراً ضئيلاً أو معدوماً على النبات نفسه. في هذا الصدد، قام الباحثون بتلقيح عدد قليل من النباتات يدوياً ووجدوا أن إنتاجها للبذور لا يختلف بشكلٍ كبير حسب مستويات التلوث، ما يعني أن الانخفاض في زيارات الملقحات كان وراء تقليل إنتاج البذور بشكلٍ مباشر.
لكن جيرلينج وريالز فوجئا بمدى تأثير الملوثات على الملقحات، خصوصاً وأنهما لم يكونا قادرين على ضخ المقدار الذي يريدانه من عوادم الأوزون والديزل بسبب إمكانات المعدات المحدودة. يقول جيرلينج: «لم نكن نتوقع أن نرى الملقحات هنا. لذلك عندما جمع ريالز المجموعة الأولى من النتائج، طلبت منه العودة والتحقق منها مرة أخرى».
كان الباحثون قادرون على الحفاظ على مستويات الأوزون وثاني أكسيد النيتروجين (الموجود في غازات عوادم الديزل) عند نحو 35 جزءاً في المليار و 21 جزءاً في المليار على التوالي. كانت هذه المستويات أعلى بنصف مرة من المستويات الآمنة للأوزون وثاني أكسيد النيتروجين اللذين حددتهما وكالة حماية البيئة.
يقول جيرلينج: «لا تؤثر هذه النتائج على التنوع البيولوجي فحسب، بل تؤثر أيضاً على الطعام في ثلاجتك». ويشرح جيرلينج أن 70% من أطعمة المحاصيل التي نتناولها تتطلب مساعدة الملقحات للحصول عليها، ويضيف أن نقص التلقيح يمكن أن يؤدي لارتفاع أسعار المواد الغذائية بسبب قلة الإمدادات، أو اضطرار المزارعين إلى اللجوء إلى تدابير تتطلب الكثير من العمال للقيام بعملية التلقيح بشكلٍ يدوي.
على الرغم من أن جيرلينج وريالز يقولان إن تلوث الهواء لن يؤدي إلى فناء جميع الحشرات أو تعرضها لمشكلةٍ خطيرة، إلا أنهما يؤكدان أن تلوث الهواء أحد عوامل الإجهاد العديدة التي تواجهها الملقحات.
يوضح جيرلينج: «الحشرات تحت ضغط كبير في الوقت الحالي بسبب البشر. عندما تتعرض الملقحات لضغوط معينة من جميع الاتجاهات، فقد تصل إلى مرحلة لا تعود عندها قادرةً على تحملها، وقد تنهار كلياً».