أين يقع أقرب مصدر للمياه العذبة منك في هذه اللحظة؟ قبل أن تستعين بتطبيق «خرائط جوجل» لتجد أقرب بحيرة أو نهر، فكر بمصادر المياه الموجود تحت قدميك.
معظم مصادر المياه العذبة غير مرئية لنا، إذ يقع نحو 99% منها تحت سطح الأرض، في طبقات وخزّانات المياه الجوفية.
يقول «ريتشارد كونر»، رئيس تحرير تقرير تنمية المياه العالمية الخاص بالأمم المتحدة: «تشكّل البحيرات العظمى وأنهار الأمازون والنيل والكونغو والميكونغ 1% فقط من المياه العذبة في الأرض». ووفقاً للأمم المتحدة، يعتمد نحو 50% من البشر الذين يعيشون في المدن حالياً على مصادر أخرى للمياه العذبة للشرب، والاستخدامات المنزلية، وري المحاصيل.
لكن مثل الكثير من الموارد بالغة الأهمية بالنسبة للبشر، تمت إساءة استخدام المياه الجوفية أو إدارتها بشكل سيء في الكثير من الحالات. على سبيل المثال، أدت فترة الجفاف المروعة التي مرت بها ولاية كاليفورنيا إلى جفاف الطبقات الجوفية الهامة، على الرغم من وجود قوانين للحيلولة دون ذلك. في أماكن أخرى، مثل حوض «موراي-دارلينغ» في أستراليا وبعض المحميات الطبيعية في جنوب إفريقيا، يواجه البشر تحدّيات صعبة مشابهة.
يُظهر تقرير جديد من 246 صفحة أصدرته منظمة اليونيسكو في 21 مارس/آذار 2022 مدى أهمية المياه الجوفية، وما يجب علينا القيام به لحمايتها.
كتب «غيلبرت هونغبو»، رئيس لجنة الأمم المتحدة المعنية بالموارد المائية ورئيس الصندوق الدولي للتنمية الزراعية، في مقدّمة التقرير: «إن تحسين طريقة استخدامنا للمياه الجوفية وإدارتها يمثل أولوية ملحة إذا أردنا تحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030». ولكن قبل الخوض في تفاصيل إدارة المياه الجوفية والمشكلات التي تواجهها، من المهم فهم هذا المورد الثمين.
ما هي طبيعة المياه الجوفية؟
وفقاً لـ «رايان بيلي»، الأستاذ المشارك في الهندسة المدنية والبيئية في جامعة ولاية كولورادو، يمكنك أن تفكّر بالمياه الجوفية وكأنها حساباتك المصرفية. تعتبر البحيرات والخزانات المائية والأنهار التي يسهل الوصول إليها مثل الحساب الجاري، إذ ترتفع مستويات المياه (التي تقابل كمية المال في الحساب) فيها وتنخفض بسرعة كبيرة، ما يجعلها المصادر الأولى التي يمكن اللجوء إليها لأي احتياجات مائية (كما تلجأ للأموال في الحساب الجاري لشراء الحاجيات البسيطة). لكن المياه الجوفية أشبه بحساب التوفير.
يقول بيلي: «تكمن المشكلة في أنه إذا كان هناك جفاف ممتد، أو إذا تكررت فترات الجفاف كثيراً بسبب تغير المناخ، فإنك ستسحب المزيد والمزيد من الأموال من حساب التوفير الخاص بك، أي من منزلك، وبالتالي من الطبقات الجوفية»، ويضيف: «أثناء قيامك بذلك، ستتناقص كمية المياه في هذه الطبقات. لذلك، هناك العديد من طبقات المياه الجوفية من حول العالم تعاني من نضوب شديد».
لكن وفقاً لكونر، فإن المياه الجوفية أكثر تعقيداً من الحسابات المصرفية، وذلك لأن هناك نوعين من الطبقات الجوفية: الطبقات القابلة للتجديد، وتلك غير القابلة للتجديد (أو «الأحفورية»). إذا كانت الطبقات الجوفية القابلة للتجديد تشبه حساب التوفير الذي تودع فيه راتبك، فإن طبقات المياه الجوفية الأحفورية تشبه النقود المخبأة تحت الفراش. بمجرد أن تصرف هذه النقود، سيستغرق تجديدها سنوات. بالمثل، يقول كونر إن طبقات المياه الجوفية الأحفورية تشكل ما يصل إلى 90% من المياه الجوفية في الأرض، ولكن كما أظهرت دراسة من عام 2015، تتجدد نسبة 6% فقط من طبقات المياه الجوفية في العالم بشكل طبيعي خلال 50 عاماً.
تجديد المياه الجوفية، أو «إعادة التعبئة»، هي عملية مباشرة نسبياً. إذ تتسرب مياه الأمطار والجداول وحتى المياه المستخدمة في الري وتشق طريقها إلى طبقات المياه الجوفية. ونظراً لأن المياه الجوفية تصعد بشكل طبيعي إلى السطح، فإنها تعيد ملء البحيرات والأنهار في عملية تسمى «التصريف». لكن نظراً لأن البشر يسحبون المزيد من المياه يدوياً من الطبقات الجوفية، فإن معدل التصريف يتجاوز معدل إعادة التعبئة. ويزداد ذلك سوءاً بسبب تبخّر المياه السطحية بسرعة أكبر نتيجة لتغير المناخ، ما يقلل من كمية المياه التي يمكن أن تعود إلى طبقات المياه الجوفية.
بينما قد يرسم البشر حدوداً وهمية لتقسيم الموارد، فإن الطبيعة لا تعترف بهذه الحدود. لذلك إذا قامت مجموعة من البشر بسحب كميات كبيرة من إحدى الطبقات الجوفية، فقد ينتهي بهم الأمر باستنزاف موارد مزرعة أو مجتمع يعتمد على نفس المخزون.
كيفية حماية المياه الجوفية واستغلالها على أحسن وجه
الخطوة التالية بعد فهم المياه الجوفية هي اكتشاف أفضل الطرق لاستخدامها، لا سيما في بلدان العالم التي هي في أمس الحاجة إليها. يقول كونر إن السر هنا هو فهم هيدرولوجيا (علم مياه) الطبقات الجوفية بالضبط، وتحديد الجماعات البشرية التي تستهلكها (ومقدار استهلاكها)، وأخذ العدل في توزيع الموارد في الاعتبار.
تختلف قواعد تنظيم استهلاك المياه الجوفية بشكل كبير في أجزاء معينة من العالم، وحتى في ولايات أميركية مختلفة. على سبيل المثال، يتم التعامل مع المياه الجوفية والمياه السطحية في ولاية كولورادو بنفس الأسلوب، ما يعني أن المياه الجوفية تحظى بنفس درجة الحماية الخاصة بأي مسطح مائي عام. ولكن في أماكن مثل ولاية تكساس، كما يقول بيلي، يمكنك إلى حد ما ضخ الكمية التي تريدها من المياه إلى ممتلكاتك.
يتطلب تحديد موقع المياه الجوفية أيضاً الكثير من التقنيات والموارد الأخرى التي لا تمتلكها الدول النامية غالباً. يدعو تقرير الأمم المتحدة الأخير شركات النفط والغاز على وجه التحديد إلى نشر الحقائق التفصيلية التي قد تمتلكها عن مخزونات المياه الجوفية. كتب مؤلفو التقرير: «يجب على الشركات الخاصة الكشف عن البيانات والمعلومات ذات الصلة بالمقاييس البارامترية للمياه الجوفية التي من شأنها تحسين عملية تقييم المياه الجوفية وإدارتها»، وأضافوا: «على سبيل المثال، يمكن للبيانات الجيوفيزيائية وبيانات الآبار التي تم جمعها أثناء عمليات التنقيب عن النفط والغاز أن تحسن المعرفة عن مدى الخزان الجوفي ومقاييسه البارامترية».
لكن حتى عندما تعرف البلدان أين توجد طبقات المياه الجوفية، فإنها بحاجة لتوفر الأدوات اللازمة للتصرف بمسؤولية وتوزيع هذا المورد بشكل منصف. على سبيل المثال، في ستينيات القرن الماضي، بدأت الهند في تقديم دعم لضخ المياه الجوفية للمزارعين بهدف زيادة الإنتاج الزراعي. نتيجة لذلك، تم استهلاك احتياطيات المياه الجوفية في الجزء الشمالي من البلاد بمعدل غير مستدام يبلغ 19.2 غيغا طن سنوياً.
نظراً لأن قادة الدول في جميع أنحاء العالم يبحثون عن المزيد من الطرق لحل مشكلات المياه في بلدانهم، يمكن أن تمثّل طبقات المياه الجوفية شبكة أمان. (على سبيل المثال، تمتلك البلدان في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، والتي تعاني حالياً من الجفاف وانعدام الأمن الغذائي، نظاماً للمياه الجوفية القابلة لإعادة التعبئة لا يزال من الممكن الاستفادة منه). ولكن لإيجاد حل مستدام حقاً، يؤكد كونر على الحاجة لفهم هيدرولوجيا طبقات المياه الجوفية، واعتماد تقنيات الري الفعالة، والتركيز على كيفية مشاركة المورد مع من هم في أمس الحاجة إليه.
يقول كونر: «تقع على الحكومات مسؤولية العمل كأوصياء على هذا المورد»، ويضيف: «وتقع عليها مسؤولية ضمان الوصول إلى هذا المورد واستخدامه، والربح منه بشكل خاص، وتقاسم كل ذلك بشكل عادل».