في شهر مارس/آذار من كلّ عام، يخيّم الهدوء التّام لمدّة 24 ساعة في جزيرة بالي الإندونيسية احتفالاً بيوم «نيبي» أو عيد رأس السنة القمرية، الذي يصادف العام الهندوسي الجديد. يلتزم الناس بالصمت والتأمل في هذا اليوم، وتُغلق المتاجر أبوابها وتخلو الشوارع من المارة والسيارات، وتخلو الشواطئ من المصطافين، وحتى حركة النقل الجوي وشحن البضائع يتمّ إيقافها.
في عام 2017، استغل العلماء هذه الأوقات النادرة من الهدوء، وقاموا بإنزال 6 سمّاعات مائية (هيدروفون) إلى أعماق البحر لتسجيل الأصوات التي يمكن سماعها هناك، وقاموا بتحليل الأصوات لعدّة أيامٍ لمعرفة كيف يبدو المحيط الشاسع عندما تتوّقف ضجيج البشر. سمع العلماء بوضوحٍ أصوات اصطكاك مخالب الجمبري، وهمسات وصراخ الأسماك كما لو أنّها جوقة تنشد في حفلة موسيقية ليلية.
يتخيل الناس أن المحيط هادئ، لكن الأعماق ليست ذلك «العالم الصامت» كما سمّاه مستكشف البحار وعالم البيئة «جاك كوستو» سابقاً. تشير البيانات إلى أن أكثر من 34200 نوعاً من الأسماك يمكن سماع أصواتها، وهناك الكثير من الأصوات الأخرى يمكن سماعها. فالحيتان تُغني، لكن لا تغني وحدها كما كنا نعتقد سابقاً، هناك ما لا يقلّ عن 800 نوع من الأسماك تصدر أصواتاً مثل النقر، أو الصراخ، أو الخرخرة والأنين. مثلاً، تبدو أصوات الشعّاب المرجانية مثل أصوات فرقعة الذّرة (الفشّار). كما يمكن سماع أصداء العواصف والزلازل في الأعماق أيضاً.
في الواقع، لقد ولّدت الصناعات البحرية على مدار 70 عاماً؛ ما يكفي من الضجيج بحيث يكون من الصعب سماعَ أي شيءٍ غيره. أثار ذلك قلق البعض لسنواتٍ طويلة، لأن الآثار السلبية لصناعاتنا لا بدّ أن تصل أخيراً إلى مياه المحيطات. تُظهر الأدلّة المتزايدة أنّ النشاط البشري يؤثّر سلباً على المخلوقات البحرية الكبيرة والصغيرة إلى درجةٍ كبيرة، ويمكن أن تقلل أعمارها وتقضي عليها.
هناك ما يكفي من التحديات الطبيعية التي تواجهها المخلوقات البحرية. على سبيل المثال، سجّل الزلزال الذي ضرب اليابان عام 2011 ضجيجاً مقداره 230 ديسيبل قبالة سواحل جُزر ألوتيان في آلاسكا، وهو ما يعادل صوت صاروخ «ساتورن 5»، وربّما كان ذلك أعلى صوتٍ يُسجّل في الطبيعة تحت سطح الماء. بالمقابل، وأثناء إعصار «إيرما» الذي بلغت سرعة الرياح فيه 120 كم/ساعة بعد وصوله إلى اليابسة، سجّلت السمّاعات المائية مستوىً عالياً من الضجيج تحت الماء في خليج «ساراسوتا» بلغ 30 ديسيبل، أي أعلى 8 مرات من مستوى الضجيج قبل العاصفة.
حتّى في البحار الهادئة، سُجلت مستوياتٌ من الضجيج الزائد في أماكن كثيرة، وتُعتبر عمليات الشحن التجارية المصدر الرئيسي لها. فقد تضاعف الضجيج في تلك البحار بمعدّل 3 ديسيبل كلّ عقد بين عام 1950، وحتّى عام 2007. تنتقل الطاقة الصوتية مسافاتٍ أكبر عبر الماء مقارنةً بانتقاله عبر الهواء، لذلك يمكنك سماع مقدار قليل من أصوات وأصداء الضجيج. يقول «ريكس أندرو»، عالم صوتيات المحيطات في مختبر الفيزياء التطبيقية بجامعة واشنطن: «إذا أصغيت إلى الأصوات التي يُسجلها الهيدروفون وسط المحيط المفتوح، سيبدو الأمر وكأنّك تقف بجانب طريقٍ سريع، لن تسمع صوت سفينة بحدّ ذاتها، بل صوت هدير مستمر وبعيد».
هذا جزءٌ فقط من «الهجوم الصوتي» الذي يقوم به البشر على المحيطات. فالموجات السيزمية التي تصدر من أجهزة الكشف عن المواد تحت السطحية (الغاز والنفط) في قيعان المحايطات، تتسبب في إحداث أصوات شديدة أعلى من أصوات الطائرات النفّاثة، ويمكن أن يصل مداها حتى 4000 كم تقريباً. كما يتخطّى هدير محركّات القوارب والسفن 160 ديسيبل، وهو ما يعادل صوت إطلاق النار من بندقية، لكنّه صوتٌ يستمر لساعات. كما كشفت تسجيلات أحد السمّاعات المائية التي وُضعت بالقرب من المطار أثناء دراسة «نيبي»؛ أن الطائرات زادت من الضجة تحت الأمواج بمقدار 6 إلى 10 ديسيبل، أي زيادةً بلغت 10 أضعاف عمّا كان عليه الضجيج قبل أن تُستأنف الرحلات بعد انقضاء اليوم.
كل ما ذكرناه آنفاً يؤثر على الحياة البحرية بطرقٍ عدّة. على سبيل المثال، يؤثر الضجيج على الترددات التي تعتمد عليها المخلوقات البحرية في تواصلها مع بعضها، والبحث عن الغذاء، والعثور على طريقها. كما يمكن أن تُضرّ الأصوات القصيرة والشديدة التي تبلغ أعلى من 200 ديسيبل على سمعها، بينما يمكن لأصوات الضجيج المستمرة في الخلفية -التي تزيد شدّتها عن 120 ديسيبل- في دفعها لتغيير سلوكياتها.
تظهر على الحيتان ردود الفعل الأكثر وضوحاً على الضجيج الذي يُحدثه البشر. فهي قد تغوص أو تصعد فجأة، أو حتّى تسبح لمسافاتٍ كبيرة هرباً من أصوات أجهزة «السونار» التي يستخدمها البشر لاستكشاف البحار، والتي قد تتجاوز شدتها 215 ديسيبل، وتنتقل حتّى 160 كم، وقد تندفع بعض الأنواع نحو الشاطئ وتموت هناك فيما يعرف بـ «انتحار الحيتان». وقد وثّقت إحدى الدراسات 121 حادثةً اندفعت فيها الحيتان نحو الشواطئ بين عامي 1960 و 2004؛ لقد كانت مثل هذه الحوادث نادرةً قبل انتشار استخدام جهاز السونار قبل 60 عاماً. وقد كشف تشريح جثث الحيتان عن حدوث نزيفٍ وتلفٍ في بعض الأعضاء مثل؛ الأذن والكلى والدماغ. كما وجد الباحثون أيضاً آثاراً لفقاعات النيتروجين في دمائها، مما يشير إلى أن الحيوانات عانت من مرض تخفيف الضغط، وهي حالةٌ تحدث بسبب الصعود السريع إلى سطح المياه.
بالنسبة للمخلوقات البحرية الأخرى، تُظهر عشرات الدراسات على الأسماك أن الضوضاء تُضعف من قدرة الحيوانات على الإصغاء، وهو أمرٌ حيويٌ لها يساعدها على الصيد والتزاوج، وتجنب الحيوانات المفترسة، بينما تواجه المخلوقات الأصغر المخاطر أيضاً بسبب الضجيج. ففي أحد الاختبارات قُبالة سواحل تسمانيا، جمع الباحثون الذين أطلقوا موجاتٍ سيزمية (زلزالية) ما بين ضعفين إلى ثلاثة أضعافٍ من العوالق الحيوانية الميتة ضمن منطقة الاختبار، التي بلغ طولها كم واحداً تقريباً مقارنةً بما جمعوه قبل التجربة. يشير ذلك إلى أنّ ضجيج هذه الأجهزة يمكن أن يقضي على المخلوقات البحرية، التي تقع أسفل السلسلة الغذائية البحرية.
لا يعلم العلماء الكثير عن تأثير الضوضاء المزمنة التي يأتي معظمها من ضوضاء عمليات الشحن البحري. الأسوأ من ذلك، أنهم لا يستطيعون تقييم المشكلة بشكلٍ كامل لأنهم يفتقرون لتسجيلاتٍ أو نماذج لضوضاء الخلفية في المحيطات. ولا تقدم تسجيلات البحرية الأميركية من الخمسينيات سوى مقاطع سمعيةٍ صغيرةٍ جداً لهذا الضجيج.
ومع ذلك، تشير بعض الأدلة إلى أن التشويش الذي يسببه الإنسان يشكل تهديداً مستمراً وقد يكون مميتاً. لقد كشفت الهيدروفونات أن خليج «فوندي» الكندي كان أكثر هدوءاً بمقدار 6 ديسيبل، بعد أن قامت الولايات المتحدة بإغلاق المطارات المحلية، وموانئ الشحن بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول عام 2001. كشف تحليل عينات البراز التي جُمعت من «حوت شمال الأطلسي الصائب» في تلك المنطقة؛ عن انخفاضٍ في الهرمونات المرتبطة بالإجهاد، والتي يمكن أن تعوق النمو وتتلف القلب وتضعف جهاز المناعة. يشير ذلك إلى أن النشاط البشري قد يؤثر سلباً على طول أعمارها.
في الواقع، نادراً ما يتمكّن الباحثون من تسجيل الأصوات في مياهٍ هادئة ليومٍ كامل، نظراً لعدم وجود مناطق يكون فيها البحر خالياً من الضجيج ولو ليومٍ واحد. فدراسة سلوك الحيوانات البحرية يعني بالضرورة دراستها مع إضافة عامل الصخب الموجود في البحار، على سبيل المثال، تعريض الحيتان لموجات السونار أثناء الدراسة. تقول «كريستين إرب»، عالمة الجيوفيزياء الأسترالية التي عملت في دراسة بالي: «نحن لا نتعامل مع هذه الحيوانات أبداً بصمت». كريستين هي واحدةٌ من بين 100 عالمٍ مشارك في «التجربة الدولية للمحيطات الهادئة»، وهي برنامج علمي دولي لتعزيز البحث والمراقبة والنمذجة، لتحسين فهم الضجيج في المحيطات وتأثيرها على الكائنات البحرية.
يمكن أن تساعد النتائج التي توصلوا إليها في الإجابة عن الأسئلة الأكثر إلحاحاً وهو: ما مدى ضرر كل هذه الضوضاء على الكائنات البحرية؟ وما هي الآثار طويلة المدى عليها؟ في ديسمبر/ كانون الأول 2018؛ أعربت الأمم المتحدة عن الحاجة الملحّة لإجراء المزيد من البحوث لمعرفة إجابة ذلك. بينما لم يتأخر الإتحاد الأوروبي، فقد أصدر تشريعاً يحدّ من تأثير الضوضاء التي تحدثها الأنشطة البشرية على الحياة البحرية، مثل إعادة تصميم مراوح محركّات السفّن، واتخّاذ إجراءات أخرى من شأنها تخفيض ضجيجها. نأمل أن يتمتّع سكّان أعماق المحيطات بقليلٍ من الهدوء والسكينة في المستقبل.
نُشرت القصة في العدد السادس عشر من مجلة بوبيولار ساينس، احصل عليها من هنا: ششش! استمع