كانت النار مشتعلة ضمن الموقد الحجري الدائري، عندما رمى أحدهم بعض القطع من الطعام: خضروات صليبية (مثل الملفوف والقرنبيط والفجل وغيرها)، وبقوليات، ولحم الغزال، ورغيف خبز. احترقت بقايا هذه الوجبة، وتفحمت واسودت، ولكن النيران لم تقض عليها بشكل كامل.
تابع الأشخاص الذين حضروا وأكلوا هذه الوجبة وتخلصوا من بقاياها حياتهم، وتركوا المكان، ودفن الموقد مع الكنز الذي فيه تحت طبقة من التراب بسماكة أكثر من 30 سنتمتر. وأتت الأجيال اللاحقة ورحلت، وبنيت أشياء أخرى في هذا المكان وهُجرت، وبعد أكثر من 14,000 سنة، أتت مجموعة جديدة من البشر لتكشف عن الموقد، وتجمع أحجية قصة الناس الذين عاشوا في هذا المكان من قبل.
كان علماء الآثار ينقبون في موقع أثري في الأردن يعرف باسم الشبيقة 1، وكشفوا عن الموقد والطعام داخله. كان وجود بقايا اللحم والنباتات أمراً طبيعياً، وهو أمر عادي بالنسبة للنظام الغذائي للبشر الذين يعتمدون على الصيد وجمع النباتات. أما الخبز فكان مفاجئاً، لأن الناس الذين صنعوه لم يجمعوا الحبوب من حقولهم لصنع الطحين، نظراً لعدم وجود زراعة في ذلك الوقت. وفي الواقع، فإن الخبز من موقع الشبيقة 1 ظهر قبل أولى الدلائل على الزراعة بحوالي 4,000 سنة.
تعمل أمايا أرانز أوتايجوي كعالمة آثار في مركز دراسات المجتمعات الزراعية الأولى في جامعة كوبنهاجن، وقد عملت على الموقع لست سنوات حتى الآن. وكانت المؤلفة الرئيسية لدراسة توصّف الاكتشاف في مجلة Proceedings of the National Academy of Sciences.
عثرت أرانز أوتايجوي على البقايا عندما كانت تأخذ عينات التربة من الموقد، وفي البدء، لم تتمكن من تحديد طبيعتها، وتقول: "عثرت على بقايا لم أتمكن من تصنيفها، حيث أنها لم تكن بذوراً، ولم تكن فحماً خشبياً، ولم نكن متأكدين بالضبط من ماهيتها".
بعد ذلك، أخذت تلك البقايا المسودة إلى زميلتها في لندن، لارا جونزاليس كاراتيرو، والتي اكتشفت أن هذه البقايا الغريبة لم تكن سوى خبز. تقول جونزاليس كاراتيرو في تصريح: "ليس من الممكن تحديد هوية الخبز، أو غيره من المنتجات التي تعتمد على الحبوب، بشكل مباشر في علم الآثار. وكان هناك ميل لتبسيط عملية التصنيف بدون اختبار هذه العينات لمقارنتها مع أية معايير تعريفية. لقد وضعنا مجموعة جديدة من المعايير لتحديد وجود المنتجات كالخبز والعجين والعصيدة في السجل الأثري. وباستخدام مجهر يعمل بالمسح الإلكتروني، تمكنا من تحديد البنى الميكروية والدقائق في كل عينة من الطعام المحروق".
لم يكن هذا الخبز –أو سلف الخبز، حسب وجهة نظرك- ناعماً أو اسفنجياً كالخبز المعاصر، وهو أقرب إلى خبز البيتا منه إلى البريوش، وعلى الرغم من وجود حبوب في هذا الخبز، فإن دقيق الحبوب كان مكملاً للدقيق المصنوع من درنة نبتة مائية قريبة. تقول أرانز أوتايجوي: "لطالما ربطنا بين الخبز والحبوب، ولكن في الواقع، يمكن صنعه من الكثير من النباتات الأخرى أيضاً. أعتقد أنه من المثير للاهتمام أن نعرف كيف كانوا يخلطون المكونات للحصول على هذا الخبز المركب".
لم يعثر على فرن في الموقع، ما دفع الباحثين للاعتقاد بأن الخبز صنع على حجر ساخن قرب النار، أو داخل رماد الموقد. تقول أرانز أوتايجوي: "ارتبط الخبز على الدوام بالمجتمعات الزراعية والتي كانت تدجن الحيوانات. وبالطبع، قال بعض الباحثين أن الخبز أنتج قبل ذلك بكثير، ولكن لم يكن لدينا أي دليل، ولم يكن لدينا سوى الافتراضات والنظريات التي لا يمكن اختبار صحتها".
اكتشف باحثون آخرون أدلة على أن المجتمعات في أوقات سابقة كانت تعالج النباتات، مثل المناجل التي استخدمت لجمع الحبوب، وأدلة على استخدام الأدوات الحجرية لطحن النباتات. في 2010، نشرت آنا ريفيدين وزملاؤها بحثاً يحوي أدلة على معالجة النباتات في فترة تعود إلى 30,000 سنة. تقول ريفيدين، وهي مديرة المعهد الإيطالي لفترات ما قبل التاريخ وبداية التاريخ، في رسالة بالبريد الإلكتروني: "تبين دراساتنا حول معالجة الطعام في أوروبا في العصر الحجري القديم استخداماً مبكراً للغاية للعديد من أجزاء النباتات (كأعضاء التخزين تحت الأرض، مثل جذمور نبتة عشبة البرك في موقع بيلانسينو، والحبوب، والشوفان البري في موقع باجليتشي... إلخ) لإنتاج الطحين، وهو ما يشبه الطحين المستخدم في موقع الشبيقة 1 لإنتاج ذلك النوع من الخبز".
كان العثور على هذا الخبز المحفوظ اكتشافاً نادراً، وساعد على إثبات استخدام واحد على الأقل لهذا الطحين في مرحلة ما قبل التاريخ، حتى قبل أن تنتشر الزراعة. تقول ريفيدين: "من الصعب للغاية العثور على بقايا نباتية، لأنها قابلة للتحلل أكثر بكثير من العظام والهياكل الخارجية القاسية. ولكن يمكن حفظها في شروط خاصة للغاية، مثل البيئات المبللة، أو إذا حرقت، وعادة ما يتم البحث عن الأدلة حول استهلاك النباتات في الأدوات (كأدوات الطحن) أو في دراسة أسنان الهياكل العظمية المتحجرة".
عثر الباحثون في موقع الشبيقة 1 أيضاً على بقايا نباتات تمثل أسلاف بعض أصناف المحاصيل الزراعية الأولى، وهي صلة محتملة مثيرة للاهتمام بين هذا المجتمع والمجتمعات اللاحقة الزراعية. تقول أرانز أوتايجوي: "يتوافق هذا بشكل ممتاز مع الأدلة التي كانت لدينا من قبل".
ولكن ليس من الممكن بعد أن نربط بشكل مباشر بين استهلاك الخبز لدى هؤلاء البشر وظهور الزراعة بعد 4,000 سنة. ونظراً للعمل الشاق الذي يتطلبه جمع المواد الأولية لهذا الخبز من البراري، ومعالجتها وتحضيرها، فمن المستبعد أن الخبز وغيره من منتجات الحبوب كانت جزءاً أساسياً من النظام الغذائي لتلك المجتمعات. تقول أرانز أوتايجوي: "هناك وجهة نظر تقول بأن الخبز والجعة كانت على الأرجح منتجات فاخرة. قد يكون هناك رابط ما بين تصنيع المنتجات الغذائية الجذابة مثل الخبز –الذي يتصف بأنه عملي ولذيذ ويؤكل مع الكثير من الأطعمة الأخرى- والحاجة لإنتاج المزيد من الحبوب لإنتاج المزيد من الخبز. إن إثبات هذه الصلة صعب للغاية، وليس لدينا ما يكفي من الأدلة حتى الآن".
تخطط أرانز أوتايجوي وزملاؤها لمتابعة تحليل أكثر من 600 عينة من بقايا الطعام من الموقع لاستخلاص المزيد من المعلومات. وحتى الآن، يبدو أن الكثير من القطع مصنوعة من الدرنات، لا الحبوب. يخطط الفريق أيضاً لدراسة مواقع قريبة وتحليل تغير الأنظمة الغذائية مع الزمن.
وقد جمعت أرانز أوتايجوي وزملاؤها درنات مشابهة لتلك المستخدمة في تصنيع ذلك الخبز، ويخططون لتجربة بعض الوصفات والطرق في محاولة لإعادة تصنيع هذا الخبز القديم.