من المبيدات الحشرية إلى الكافيين، تجد الكيماويات التي تؤثر على الكائنات الحية طريقها إلى الأنهار والمجاري المائية، هذا ما توصلت إليه دراستان تكامليتان أجراهما كل من مركز الاستقصاء الجيولوجي الأمريكي وهيئة حماية البيئة الأمريكية نشرتا في نيسان 2017 في مجلة علوم وتكنولوجيا البيئة.
ويشكل هذا الأمر مصدر قلق للكائنات الحية المختلفة، حيث تشكل الأنهار والمجاري المائية المصدر الرئيسي لمياه الشرب. وقد أظهرت دراسات سابقة أن مرافق معالجة المياه تقوم بإزالة بعض هذه الملوثات ولكن ليس جميعها.
يقول بول برادلي عالم المائيات وأحد مؤلفي الدراستين: " هناك الكثير من الدراسات التي أظهرت أن هذه الأنواع من الملوثات -حتى وإن كانت بتراكيز منخفضة- يمكن أن تسبب تأثيرات حيوية واسعة، وعندما نتحدث من الناحية البيئية الخاصة بالمجاري المائية فإننا نتحدث بالضرورة عن كامل الشبكة الغذائية ابتداء من الأحياء الدقيقة وانتهاء بالأسماك الكبيرة والثدييات".
وقد قام برادلي وزملاؤه بأخذ عينات المياه من 35 مجرى مائياً بما فيها ثلاثة مواقع بعيدة عن مناطق السكن أخذت منها عينات معيارية، بينما تم أخذ العينات الأخرى من بيئات مدنية وريفية. وقد أخذ الباحثون كميات كافية من كل موقع وذلك لعمل اختبارين منفصلين.
وقد تحرّى الاختبار الأول عن وجود 719 مركباً كيماوياً محدداً مسبقاً، وقد تم الكشف عن وجود أكثر من نصف هذه المركبات (406 مركبة) والتي تظهر أن الكيماويات التي ينتجها الإنسان تتداخل مع البيئة. وجاء في رأس هذه القائمة عشرة مركبات، ثمانية منها مبيدات حشرية واثنان من المواد الدوائية هما الكافيين والميتفورين (الذي يستخدم في علاج النوع الثاني من الداء السكري). ومن المهم ملاحظة أن أياً من هذه الكيماويات لم يكن موجوداً بشكل فردي ولكن مع كيماويات أخرى مختلطة مع بعضها البعض.
أما الاختبار الثاني فكان أكثر إثارة للاهتمام. وبدلاً من تحري وجود مواد كيماوية معينة فقد اختبر الباحثون عينات الماء باستخدام المعايرة الحيوية التي تبحث عن التأثيرات التي تملكها المواد الكيماوية على الكائنات الحية. فإذا أخذنا الكافيين كمثال، فإن شخصاً لديه حساسية منه يمكن أن يختبر وجوده في فنجان من القهوة وذلك بفحص محتواها من الكافيين، أو يمكن أن يشرب القهوة ويرى إن كانت قد جعلته يشعر بالتنبيه.
والمعايرة الحيوية تشبه شرب فنجان القهوة ولكنها تكون على المستوى الخلوي. وهي طريقة محدودة - بمعنى أن الكافيين ليس المادة الدوائية الوحيدة التي تسبب التنبيه- ولكنها مفيدة أيضاً.
فإذا لم تكن تعلم أن هذه القهوة تحتوي على الكافيين فمن الضروري أن تقوم باختبار وجوده فيها، أما إن كنت تعلم أن القهوة تسبب لك التنبيه فعليك حينها أن تبحث عن السبب.
وفي مثل هذه الحالة قام الباحثون باختبار ما إذا كانت عينات الماء قد أثرت على مستقبلات الإستروجين (الهرمون الجنسي الأنثوي) والأندروجين (الهرمون الجنسي الذكري) ومستقبلات الهرمون القشري السكري (وهي مركبات مضادة للالتهاب توجد عادة في الستيروئيدات). وقد وجد الباحثون أن عينات الماء قد أثرت في المستقبلات الثلاثة، وهو أمر لم يكن مفاجئاً. ولكن عندما حاولوا الربط بين النشاط الحيوي والمواد الكيماوية التي سببت استجابة المستقبلات واجهوا صعوبات مع الأندروجين والمركبات القشرية السكرية. وبالاعتماد على فهم وجود 406 مركبات داخل مصادر المياه فإن مستقبلات الأندروجين والمستقبلات القشرية السكرية لم يكن ينبغي أن تبدي استجابة بنفس القوة التي أبدتها.
وبالعودة إلى مثال الكافيين فالأمر يشبه أن تشرب فنجاناً من القهوة الخالية من الكافيين مع الإحساس بالتنبيه يالرغم من أنك شربت قهوة فيها القليل من الإسبريسو، فهو لا يعطيك إحساساً بالتنبيه ولكنّ هناك شيئاً ما يوترك.
يقول برادلي: "يمكن أن يكون السبب وجود مواد كيماوية لا نقوم بتحليلها لأنها تتفاعل مع المستقبِل. ويمكن أن يكون بسبب أن الارتباط يخلق نوعاً من الاستجابة الشاملة لا ندركها. أو من الممكن أن بعض هذه المواد الكيماوية تتفاعل مع هذا المستقبِل، ونحن لم نتحقق من ذلك لأنه لم يقم أحد باختبار هذا النشاط فيها بشكل مباشر من قبل. ولذلك لا نعلم إذا كانت مرتبطة بهذاالمستقبِل. ويمكن أن تكون هذه الاحتمالات الثلاثة كلها". وما تزال التأثيرات البيئية والصحية على المدى البعيد غير معروفة، ولكن من غير المعقول أن نظن أن هذه التأثيرات غير موجودة.
يقول برادلي: "من المهم أن نتذكر أن هذه المركبات متاحة تجارياً لأنها معدة خصيصاً ليكون لها تأثير حيوي، ويعتمد نجاحها التجاري على تأثيرها الحيوي المثبت. وربما كان السؤال الأهم هو لماذا تعتقد أنها لا تملك تأثيراً على البيئة".
معظم الكيماويات التي تم اكتشافها كانت مواد دوائية، ومع أن المواد الدوائية تبتعد عن اختبارها على الحيوان، فإن أول طريقة لاختبار فعالية الأدوية البشرية هي اختبار المركبات التي تحتويها على الأسماك. وهذا يعني أنه لا يوجد سبب للاعتقاد بأن الحياة المائية في أنهارنا ومجارينا المائية لن تتأثر بتدفق الكيماويات التي نصبها في المياه.
إن الهدف من هذا البحث والأبحاث المشابهة ليس وقف كل الأبحاث الكيماوية، ولكنه الخطوة الأولى في التحكم بما نقوم بنشره داخل بيئتنا. والأرقام كبيرة فقد قام الباحثون باختبار 719 مركباً يمثل جزءاً من 85 ألف مادة كيميائية مصنعة قيد الإنتاج حالياً، والقائمة في ازدياد.
وقد وجد الباحثون في نفس الوقت ارتباطاً وثيقاً بين التركيز العالي للكيماويات والقرب من إحدى مرافق معالجة مياه الصرف الصحي، فكلما كان النهر أو المجرى المائي قريباً منها زاد محتوى الكيماويات فيه. فالأدوية التي يتناولها الإنسان كأدوية منع الحمل وأدوية السكري وغيرها، لا تبقى داخل الجسم لأنها إن بقيت فلا حاجة لأخذ جرعات متعددة، ولكن المواد الكيماوية تطرح خارج الجسم وتصل إلى دورة المياه عبر الفضلات ثم تصل في النهاية إلى محطة معالجة المياه. ولقد شكلت معرفة كيفية إزالة هذه الكيماويات كجزء من عمليات معالجة المياه خطاً مستقلاً في هذه الدراسة.
يقول برادلي: "هل نقوم بمعالجة مياه الصرف بالقرب من مصدرها (البيوت والمباني) بدلاً من تجميعها ومعالجتها كلها معاً في مكان واحد؟" إن مسألة البحث في كيفية وصول الكثير من الكيماويات إلى المجاري المائية وكيفية منع ذلك هي سؤال ملحّ ومستمر وله تبعات جدية.
ويتساءل برادلي: "هل نتبنى الكيمياء الخضراء صديقة البيئة؟ هل نغير طريقة تصنيع المركبات، فبدلاً من تضخيم نشاطها الحيوي وتاريخ صلاحيتها نقوم بصنع مركبات تتحلل بسرعة بحيث تكون عالية الاستهداف بمعنى أنها لا تؤثر على العضو غير المستهدف؟"
تلك هي الأسئلة التي أثارتها نتائج هذه الدراسة، ويبقى أن نعرف كيف سنجيب عنها.