تأتي المزايا التي ينطوي عليها العمل من المنزل، من تحديد جدولك الخاص، وتجنب المواصلات العامة المُستنزفة للمعنويات، مع سلبيات لا تقلّ شأناً عن منافعها مثل "عدم القدرة" على إنجاز أي مهمة. ولأن وراء كل حدث سبب، فهناك أسباب وراء هذه المشكلة.
أولها هو أننا نحن معشر العاملين من المنزل ليس لدينا فاصل مادي محدد وواضح ما بين "حيّز العمل" و"مكاننا الشخصي". ونظراً لانعدام هذا الفاصل، غالباً ما نبدأ يوم العمل متأخرين عن الوقت الذي قررنا النهوض فيه، لنجد أن المهام التي تركناها للعشيّة قائمة لا نهاية لها. يعني هذا الافتقار إلى روتين مثابر ومستمر أنه من السهولة بمكان أن يتشتت تركيزنا، لا سيما وأننا لا نبعد سوى خطوات عن الثلاجة والتلفزيون، كما أننا لوحدنا فما من زملاء عمل فضوليين يمكنهم أن يشعرونا بالخجل من أنفسنا وأن نركّز بجدية على أداء المهام. علاوة على ذلك، كشفت الدراسات أن الأشخاص الذين يعملون عن بعد يختبرون نوعاً من مشاعر العزلة المتنامية أكثر مما يشعر بها موظفو المكاتب ذوي المهام الرتيبة والروتين الذي لا يتغير.
ولكوني موظفة عن بعد أنا نفسي، لا بد أن أعترف أنني استغرقت حوالي ستة أيام بطولها كي أفتح مستند غوغل جديد و15 دقيقة إضافية أخرى قضيتها في التحديق في المؤشر النابض على صفحة المستند كي أجد في نهاية المطاف الكلمات وأبدأ في كتابة هذا المقال (قبل يوم فقط لا أكثر من موعده النهائي) وبعد أربع سنوات قضيتها في العمل من المنزل ككاتبة ومحررة ومستشارة، أخبركم باطمئنان أنه في بعض الأيام تهيمن عليّ عادة التحديق في فراغ مستندات الحاسوب، في حين أنني في أيام أخرى أنجز بشكل عجيب حيث أتم كافة مهام قائمة الانتظار وأشرع في تناول فطور الصباح برضاً وسعادة.
لكن أليس من الرائع لو كنت دائماً في ذلك المزاج من الإنتاجية العالية؟
للأسف، في حال كنت عاملاً عن بعد أو حتى عاملاً عن بعد في بعض الفترات فقط، فأنت ولا شك تدرك المعاناة التي تجعلك تتراوح جيئة وذهاباً من قاع الكسل المطلق إلى المرتفعات التي لا يصلها إلا أبطال الإنتاجية الخارقون. بغية التصدي لهذا التحدي، جمعنا لكم بعض أفضل التقنيات والنصائح التي يعتمدها المخضرمون من العمّال عن بعد، بما فيهم كاتبة هذه المقالة. حيث ستساعدك هذه النصائح على البقاء متحفزاً ومُنتجاً خارج البيئة التقليدية لمكاتب العمل.
لبِّ احتياجاتك الأساسية بشكل صحيح
عندما تشرع في العمل من المنزل، تتناقص بشدة احتمالات أن تخرج من منزلك وتتبع الروتين المألوف الذي يتبعه معظم البالغين من نظرائك. هذا ما يُصعّب عليك إنجاز المهام. لقد لاحظتُ أن رغبتي بالعمل تقلّ في تلك الأيام التي لا أنال فيها قسطاً كافياً من النوم، أو عندما لا أتناول الطعام بشكل جيد، أو أجد نفسي أنني أرتدي نفس السروال لفترة تتجاوز الستة وثلاثين ساعة.
إلا أن راميت سيثي، وهو خبير مالي للأفراد يعمل عن بعد منذ أكثر من عشرة سنوات (ولإخلاء المسؤولية، يشغل راميت أيضاً منصب الرئيس التنفيذي للشركة التي أعمل لديها بدوام كامل، إلى جانب فريق من الموظفين جميعهم يعملون عن بعد)، علّمني أن الإنتاجية لا تتمحور حول التحفيز. لأننا في حال اعتمدنا على قوة الإرادة والعزيمة لوحدها لإنجاز الأشياء، فلن ننجز شيئاً في نهاية المطاف. فإن كنت تشك في هذا المبدأ، اسأل نفسك متى كانت آخر مرة استطعت فيها تحفيز نفسك بثبات على ترتيب جدول بيانات ما، دون أن تشعر برغبة حادة في خبط رأسك على لوحة المفاتيح؟
بدل التحفيز، أنت في حاجة إلى نظام أساسي لا محيد عنه من العادات يشمل حصولك على قسطٍ كافٍ من النوم، وتناول قدر مناسب من الطعام عبر وجبات ذات وقت محدد، وترتيب مكتب عملك بحيث يكون ملائماً للعمل تماماً. ما من شك في أن مثل هذا النظام من العادات يبدو مملاً جداً، إلا أن إعداد جدول زمني مُنظم هو إحدى الطرق التي لا مناص منها لتعزيز إنتاجيتك.
بهذا الصدد، ولكي يضمن السيد سيثي أنه تناول قدراً مناسباً من الطعام، يحتفظ سيثي بوجبات معدّة مسبقاً في ثلاجته، هكذا لا يتعب في إعدادها عندما يحين وقت تناولها وفق الجدول المعدّ. من جانب آخر، يحرص السيد سيثي على جعل بيئة عمله منظمة: بحيث لا تعاني من الفوضى وبعيدة عن الضوضاء. الأهم من ذلك، يضع السيد سيثي حصوله على قسطٍ كافٍ من النوم على سلم أولوياته.
وبهذا الصدد يقول "أن ثقافتنا الحديثة زرعت فينا فكرة أن نفخر بإنجاز أقصى ما يمكن إنجازه مع النوم أقلّ فترة ممكنة. وهذا غير صحي بالمرّة لأن الدراسات لطالما فتئت تثبت الكرّة تلو الأخرى أن قلة النوم لا تقل سوءاً عن الثمالة والسُكر". لذلك يحرص السيد سيثي على النوم فترة تتراوح من سبعة ساعات ونصف (على الأقل) إلى ثمانية ساعات كل ليلة.
ويعرب قائلاً "أنه بهذه الطريقة أتيقن من أنني حينما استيقظ، سأشعر بأنني في كامل تركيزي ولدي ما يكفي من الطاقة لأجعل يومي مُنتجاً، دون الاعتماد على الكافيين والسهر حتى وقت متأخر من الليل".
إن نصيحة "الحصول على قسط كاف من النوم" تبدو بديهية وسهلة التنفيذ، إلا أن الكثير منا سيفشل في تنفيذها مفضلاً "مشاهدة حلقة أخرى فقط، واحدة أخرى فقط! من مسلسله المفضل" أو الإجابة عن رسالة إلكترونية أخرى فقط، أو التفقد "السريع" -الذي سيتبين أنه ليس سريعاً- لمستجدات الأصدقاء على فيسبوك. للتصدي لهذه المشكلة، يقترح سيثي هذا الحل: يمتلك معظمنا منبهاً يضبطه على وقت محدد للنهوض من الفراش، إلا أنه ينبغي علينا أيضاً أن نضبطه لينبهنا على حلول وقت الخلود للنوم.
مع ذلك، لا شك في صعوبة تكوين عادات جديدة (مثل الأكل والنوم والتنظيف). ويكمن سرّ الحفاظ على العادات الجديدة في اختزال ما تريد القيام به إلى أصغر خطوة أولى تستطيع تنفيذها. فنحن غالباً ما نضع هدفاً غامضاً للغاية بالنسبة لنا نحن أنفسنا بحيث لا ندرك كيف نقوم به أصلاً، وهذا ما يؤدي بنا في نهاية المطاف إلى الدوران في حلقة مفرغة وهدر جهودنا هباءً. فإذا أردت على سبيل المثال أن تحصل على قوام رشيق، فلا داعي أن تَعِد نفسك بأن تنضبط بالذهاب لصالة التمارين الرياضية خمسة أيام في الأسبوع، لأن الهدف الأكثر واقعية من ذلك هو التمرّن لمرتين أو ثلاث مرات أسبوعياً ومن ثم رفع عدد المرات تدريجياً.
إعداد قائمة مهام يومية
في حال تركت يومك دون ضبط محدد لما ستفعله فيه منذ اللحظة التي تستيقظ فيها، سيزداد احتمال أن تتعرض للمُشتتات والمُلهيات من كل نوع. وفي حال لم تحدد درجة أولوية بعض المهام عن غيرها للإنجاز في ذلك اليوم، فلربما ينتهي بك المطاف لمحاولة إنجاز كل شيء، الأمر الذي سينتهي بك إلى إحراز تقدم طفيف في إنجاز العمل الموكل إليك. ومن واقع خبرتي، سينجر عن هذا أيضاً الشعور بالقلق والتوتر حيال كل المهام التي شرعت فيها ولم تنهيها بعد.
لا يهم المكان الذي كتبتَ فيه قائمة المهام، سواء أخربتشها فوق منديل أو كنت تعتمد على أدوات رقمية مثل تقويم غوغل، فما لا بد منه للتركيز هو معرفة ما الذي ينبغي عليك القيام به كل يوم. هذا ما سيجنبك أيضاً هدر وقتك على مهامٍ لا تُحرز لك تقدماً فعلياً نحو ما تستهدف إتمامه. هكذا يتيح لك إعداد قائمة للمهام كل يوم أن توزع مواردك من قدرات تركيز ذهنية ووقت ثمين لإنجاز الأهم فالمُهم إلى ما هنالك.
لنضرب مثالاً ليتضح الأمر أكثر، لنقل مثلاً أن لديك مهمة "كتابة مقال"، وأنت تدرك جيداً أنك تكون في أقصى حالات تركيزك في الفترة الصباحية. بمعرفة هذا، بمقدورك أن تكرّس الفترة الصباحية لكتابة المقال على المستند الإلكتروني أو الورق. بهذه الطريقة، تزيح هذه المهمة عن كاهلك تماماً.
إدراك الفرق الدقيق ما بين "العاجل" و"المهم"
بمجرد أن تنهض من على حاسوبك وتسحب القابس، ستبدأ إشعارات منصة سلاك للعمل التعاوني تغزو بريدك الإلكتروني وتطبيق المنصة على هاتفك الذكي، وهي إشعارات تشي بأنها مهمة وعاجلة ويجب "حلها" بشكل فوري. إلا أن محاولة حل كل تلك الإشعارات يشبه سَيْرك فوق آلة ركض، تبذل مجهوداً لكن دون إحراز تقدم في السير، كما أنها تعتبر ملهيات تشتت انتباهك عن عمل "الأهم". والسر الذي سيجعلك تنفذ بجلدك من هذا العذاب الأليم، يكمن في معرفة الفرق الدقيق ما بين "العاجل" و"المهم".
فمجرد كون الأمر "عاجلاً" -بعبارة أخرى: أمر قد يتطلب انتباهك له فوراً- لا يعني بالضروة أنه أمر قيّم. لكن عندما يكون الأمر "مهماً"، فهذا يعني أنه خطوة ضمن جهد أشمل لتحقيق هدف ما، إلا أنه بمقدورك تنفيذه على المدى القصير. سيساعدك معرفة الفرق الدقيق ما بين هذين المفهومين في تحقيق التوازن ما بين حل "القضايا العاجلة"، مثل استكشاف الأخطاء وإصلاحها عند تعطل شبكة الإنترنت لديك، وما بين "الأعمال المهمة"، مثل جمع المصادر الكافية لكتابة مقالك.
في هذا السياق، يقول تيم هيريرا، محرر قسم "احيا بذكاء" في صحيفة نيويورك تايمز، "هناك ما يسمى بتأثير "القضايا العاجلة"، حيث كشفت الدراسات أن البشر يفضلون في الأصل إنجاز المهام الصغيرة التي تبدو عاجلة أكثر من إنجاز المهام التي تُعدّ خطوات لتحقيق هدف أشمل بعيد المدى". ويستشهد تيم بدراسة نشرتها مجلة أبحاث المستهلكين (Journal of Consumer Research)، التي خلُصت إلى أن البشر يفضلون تفقد الأغراض الأقل أهمية حتى، يقول تيم، "إن كان تفقد الأغراض الأكثر أهمية في المتجر يعني ترقية حياتهم للأفضل على مدى متوسط أو بعيد".
وهذا هو الفخ الذي نقع فيه والذي يتضمن الشعور بأننا "مشغولون جداً" طيلة الوقت: لأننا نهدر طاقتنا على أشياء منخفضة الأهمية فقط لأنها تبدو لنا "عاجلة". حسناً، كيف لنا أن تجنب هذه المُلهيات؟
تتمثل إحدى الطرق المجربة في كتم إشعارات هاتفك الذكي. فعِوَض الإجابة عن كل تنبيه وإشعار، يمكنك تخصيص فترات محددة من الزمن للتحقق منها. أما كيفية توزيع هذه الفترات الزمنية المخصصة للتحقق فيعتمد على أهمية تلك الإشعارات التي تتوقع تلقيها في ذلك اليوم.
يتمثل الخيار الآخر في تحديد مدى "أهمية" و"استعجال" مختلف النقاط التي تتضمنها قائمة مهامك. بهذا الشأن يوصي هيريرا باستخدام طريقة تُعرف باسم "مصفوفة إيزنهاور" لاتخاذ القرار، لأنها تمنحك صورة أوضح عن أولويات مهامك. لاستخدام هذه الطريقة، يشرح هيريرا "ارسم مربعاً اثنين في اثنين، (عمودين وصفين)، مع عناوين تضعها على الجانب العلوي والأيمن من الجدول. على الجانب العلوي اكتب كلمة 'عاجل' و'غير عاجل'، وعلى الجانب الأيمن اكتب 'مهم' و'غير مهم'. بعد ذلك ضع كل مهمة من المهام التي بين يديك في إحدى تلك المربعات، هذا ما سيوضح لك ما هي المهمة التي ينبغي أن تتوقف عن القيام بها الآن وما هي المهمة التي يجب حقاً أن تركز عليها". ويشير هيريرا أن تقسيم مهامك حسب الأولوية بهذا الشكل، يجنبك أن تغمس نفسك في كتلٍ ضبابية كابوسية من العمل الفوضوي.
التزم بفترات عمل لا تتجاوز وحدتها الثلاثين دقيقة كل مرّة
بعد أن تعرف ما هي المهام التي ينبغي عليك إنجازها في يوم معين، تحتاج أن تمنح عجلة التحفيز دفعة الانطلاق. في بعض الأيام، ستجد أن جميع المهام سهلة التنفيذ: لكن يتبقى عليك أن تدفع نفسك للشروع في العمل على أي حال، تماماً كما ضغطت أنا على نفسي وفتحت محرر مستندات غوغل لكتابة هذا المقال. بعد ذلك لا بد أن تُبقي عجلة التحفيز مستمرة الدوران حتى تنهي تلك المهمة.
تتمثل الحيلة هنا في إقناع نفسك أن كل ما تحتاجه لإنجاز قدر كبير من المهمة لن يتجاوز الثلاثين دقيقة. عن نفسي، لا أتوقع أبداً منها البقاء مُنتجة لساعات طويلة من الزمن، إلا أن معظمنا بمقدوره العمل بتركيز عالٍ لمدة ثلاثين دقيقة. هكذا وبمجرد أن تنقضي نصف الساعة، غالباً ما أدرك أنني أنجزت ما يكفي من العمل أكثر مما توقعت، الأمر الذي يدفع عجلة التحفيز مرة أخرى ويبقيها قيد الدوران.
من الوارد أن تستشف من هذه الحيلة نسخة معدلة عن طريقة ضبط الوقت المعروفة بتقنية بومودورو، إلا أنها تختلف عنها بعنصر مُضاف اعتدت أنا وبيث سكواريكي، كاتبة ومحررة قسم الصحة لدى موقع لايف هاكر (Lifehacker)، على تطبيقه ألا وهو: نظام الأصدقاء. يسهم هذا العنصر المضاف بإضفاء طبقة من "الحسّ بالمسؤولية" لطريقة ضبط الوقت التي تتبعها. وقد سميت أنا وبيث هذه الطريقة بـ"أشواط العمل السريعة"، وهي كالتالي:
- يقوم كل منا على حدا بتحديد المهام الصغيرة التي يمكننا حقاً إنجازها في فترة ثلاثين دقيقة.
- نخبر بعضنا البعض عن ماهية هذه المهمة.
- بعد ذلك تقوم كل منا بتشغيل "المؤقت" على ثلاثين دقيقة فترة إنجاز تلك المهمة.
- نتواصل مع بعضنا مجدداً لنعرف ما الذي أنجزناه ونتحلى تجاه بعضنا وتجاه أنفسنا بحسّ المسؤولية.
- بعدئذ نكرر هذه العملية قدر ما نستطيع، أو حتى ينتهي العمل الذي بين أيدينا.
وقد كانت هذه بالفعل طريقة قوية وفعّالة لإنجاز المهام ورفع مستوى الإنتاجية وخفض تأثير الملهيات. مع العلم أنه ليس بالضرورة أن يكون الشخص الآخر التي تجري معه هذه الطريقة يعمل معك في نفس الشركة، بل يمكنك أن تستعين به وتعينه عبر دردشة الفيديو أو الرسائل الفورية أو النصية أو أي شكل آخر من أشكال التواصل. بفضل هذه الطريقة تمكنت المحررة سكواريكي من إتمام تأليف كتابها، كما تمكنتُ من صناعة دورتي التدريبية على الإنترنت التي تبلغ مدتها ثماني أسابيع وتتمحور حول تعليم الكتابة المحترفة.
وسواء أكنت تعمل في المكتب أو من المنزل، فلن يجديك نفعاً الاتكاء على التحفيز لوحده. وختاماً نَخلُص إلى أن الإنتاجية اليومية تنبع من امتلاك المرء نظاماً مستقراً من العادات، تشتمل على تلبية الاحتياجات البشرية الأساسية من حصول على قسطٍ كافٍ من النوم وقدر مناسب من الطعام، وإنشاء روتين ثابت ومستمر يلائم ظروفك الشخصية والعملية.