كيف خاض الأطباء رحلة العلاج النفسي بواسطة عمليات المخ الدقيقة؟

4 دقائق
سرطان الرحم
الصورة: بيكسلز

مر العلاج النفسي بتجارب عديدة، أبرزها عمليات المخ الدقيقة، قبل الوصول إلى شكله النهائي الحديث؛ وهو الشكل البعيد تماماً عن العلاج بإجراء تلك العمليات. أبرز هذه العمليات الدقيقة القاسية كانت استئصال الفص الأمامي في المخ، حيث كان يُنظر إلى هذه العملية بأنها علاج للأمراض النفسية. كانت التجارب الأولى قاسية وفي الوقت ذاته لم تؤتي بثمارها، وفي أحيان أخرى كان تأثيرها سلبي على المريض، حيث ينتهي به المطاف بالوفاة.

الكلاب يخضعون للتجارب الأولى

في أواخر القرن التاسع عشر، بدأ الطبيب الألماني «فريدريك جولز» أولى تجارب العمليات الجراحية الدقيقة في المخ، حين تمكّن من إزالة الفص الصدغي في مخ الكلاب عام 1890، ولاحظ جولز أنه عندما أزيل الفص الصدغي، كانت الحيوانات أكثر ترويضاً وهدوءاً من الحيوانات الأخرى السليمة.

اقتدى الطبيب السويسري «جوتليب بوركاردت» -الذي كان يعمل في مصحة أمراض عقلية- بتجارب جولز، وقرر إجراء تجاربه لكن على المرضى النفسيين. وفي عام 1892 أجرى بوركاردت عمليات دقيقة لـ 6 مرضى مصابين بمرض انفصام الشخصية، حيث كانت لديهم أعراض هلاوس، والصراخ الكثير. تمكن بوركاردت من إزالة أجزاء من القشرة الدماغية للمرضى الستة. لا يمكن الجزم بنجاح عمليات جوتليب بوركاردت أو فشلها، إذ أن بعض مرضاه أصبحوا أكثر هدوءاً بعد الجراحة، بينما توفي اثنان منهم، ولا يمكن الجزم بأن هذا كان تأثير مباشر للجراحة، لكن المجتمع الطبي عارض تلك العمليات الجراحية وانتقدها بشدة، لذا انخفضت التجارب بشكلٍ كبير بعد ذلك.

نوبل للطبيب الذي سكب الكحول في أدمغة المرضى

أنطونيو إيجاس مونيز

أجرى الطبيبان «كارليل جاكوبسن» و«جون فولتون» عملية جراحية دقيقة على شمبانزي، حيث أزالا الفص الصدغي الأمامي من القشرة الدماغية، ثم لاحظا سلوك الشمبانزي. كشف الطبيبان في المؤتمر الدولي الثاني لطب الأعصاب في لندن عام 1935 عن بحثهما، وأكدا أن بعد العملية -التي أجراها كل منهما على حدة- أصبح الشمبانزي أكثر هدوءاً من ذي قبل.

وبعد اطلاع «أنطونيو إيجاس مونيز»، الطبيب البرتغالي، على بحث الطبيبين «كارليل جاكوبسن» و«جون فولتو»، قرر إكمال المهمة لكن على الإنسان. بدأ «إيجاس مونيز» التجربة على المرضى النفسيين المصابين بالذهان الذين تظهر عليهم أعراضاً عنيفة. أجرى مونيز العملية الجراحية عبر صناعة ثقوب صغيرة في الجزء العلوي من الجمجمة، ومن خلالها أدخل سلك معدني متصل؛ لتشريح قطاعات الأنسجة في الفص الجبهي للدماغ، وبعد الانتهاء سكب كمية صغيرة من الكحول النقي في نفس الجزء من الدماغ لقتل أي نسيج حي متبقي.

كانت الملاحظات الأولى للعملية تؤكد نجاحها، وانتشرت تقنية العملية في أوروبا وأمريكا، وأجريت للعديد من المرضى، ومنح مونيز جائزة نوبل عام 1949 لمساهمته في الجراحة النفسية والطب النفسي، لكن سرعان ما ظهرت آثار العملية الجراحية ووصفت بأنها أسوأ من المرض.

والتر فريمان: الصدمة الكهربائية بديلًا للتخدير

والتر فريمان. الصورة: ويكيميديا كومنز

في 17 يناير/كانون الثاني 1946، طور الطبيب الأميركي «والتر فريمان»، عملية إيجاس مونيز لتصبح أكثر أماناً، وبدلاً من ثقب الجمجمة، لجأ إلى إجراء العملية من خلال منطقة أعلى العين، وأسفل الجفن مباشرة، وأيضًا أزال الفص الصدغي، وهو أول من أطلق على هذه العملية، عملية جراحية دقيقة.

أجرى فريمان عملياته على نطاق واسع رغم أنه لجأ إلى الصدمات الكهربائية بديلاً للتخدير، وكان فريمان يفخر أن العديد من المرضى يمكنهم الخروج من غرفة العلميات في غضون ساعات من العلاج، وسافر فريمان في أنحاء الولايات المتحدة الأميركية، ليجري عملياته على المرضى العقليين، وكان يجري ما يقرب من 25 عملية يومياً.

حتى وفاته في عام 1972، أصر فريمان على أن عملياته الجراحية الدقيقة ساعدت أغلب مرضاه النفسيين، لكن لاحظ المؤرخ الطبي «إدوارد شورتر» أن تعريف فريمان للنجاح هو أن المرضى لم يعودوا مزعجين وصاروا هادئين، وهذا لا يعني أنهم تماثلوا للشفاء، فقط يمكن إخراجهم من المصحات النفسية، لكن عانوا من عدم قدرتهم على الاستمرار في الحياة الاجتماعية الطبيعية، وعادة ما فقدوا وظائفهم.

التخطيط الكهربائي يكشف العمليات الدقيقة للدماغ

حقوق الصورة: N Engl J Med.

بعد عدة محاولات من العلماء للوصول إلى رصد نشاط المخ، بدأت منذ عام 1929، تمكن العالم «دبليو جراي والتر» عام 1957، من اختراع جهاز «EEG» يمكّنه من رسم تخطيط كهربائي للدماغ عبر رسم إشارات ثنائية الأبعاد. كان الجهاز معقداً، ويحتوي على 22 قطب، يتصل كل منها بزوجين من الأقطاب الكهربائية المتصلة بالجمجمة، وكان كل قطب قادر على رسم التخطيط الكهربائي في أجزاء الدماغ المختلفة، وبالتالي تمكن العلماء من رصد أنشطة المخ المختلفة، بما في ذلك الفصوص الأمامية التي كانت تستأصل في العمليات الجراحية.

عمل مجموعة من العلماء على رصد النشاط الكهربائي للدماغ للمرضى العقليين، قبل وبعد العمليات الجراحية الدقيقة التي تستهدف الفص الأمامي في الدماغ، وخلصت العديد من الدراسات على المرضى إلى نتائج مقاربة، منها أن العملية الجراحية ليس لها تأثير مفيد على الاضطرابات العقلية، وأن هذه العمليات من شأنها أن تلحق الأذى أكثر بالمرضى، وساهمت هذه الدراسات كثيراً في وقف تلك العمليات الجراحية الدقيقة.

خمسينيات القرن العشرين: الأطباء يستخدمون العقاقير الطبية

طب, أدوية, روشتة, عقاقير طبية, صحة

في خمسينات القرن العشرين، تراكمت الاعتراضات الأخلاقية على العمليات الجراحية الدقيقة، بسبب الأضرار التي لا يمكن علاجها في أجزاء الدماغ، وبسبب تقارير الآثار الجانبية الشديدة للجراحة على شخصية المريض وحياته الاجتماعية. بدأ الجراحون العصبيون في كل مكان في التخلي عن استئصال الفصوص الجراحية لصالح طرق علاج أكثر إنسانية.

أعلن أحد رواد الجراحة النفسية، الطبيب الأميركي «جون فولتون» عن نهاية العمليات الجراحية الدقيقة في المخ على المرضى النفسيين عام 1952، وقرر الأطباء استخدام عقار «الكلوربرومازين» المضاد للذهان، الذي بدأ العمل به في أوروبا عام 1953، وأتيح في الولايات المتحدة الأميركية عام 1955، بديلاً لعمليات الفص الصدغي للمخ.

وختاماً، ومع التطور الطبي والعلمي، ظهرت أدوية أخرى لعلاج المرضى النفسيين بعيداً عن العمليات الجراحية في المخ. أما الفص الصدغي، فلا يمكن الاقتراب منه الآن بعد إدراك أهميته في تشكيل الذكريات البصرية واللفظية، والذاكرة طويلة الأجل، وتفسير الروائح والأصوات.

المحتوى محمي