لا يوجد سبب طبيعي يؤدي لاكتساب أقراص الجبنة الكبيرة للون البرتقالي الزاهي، ولكن معظمنا لا يفكر بهذه الأمور كثيراً على أي حال. نحن نعلم بطبيعة الحال أن المسحة البرتقالية الفاقعة للهمبرغر بالجبنة من ماكدونالدز عبارة عن تلوين مزيف، غير أننا لا نأخذ نفس الانطباع عن اللون البرتقالي الباهت لجبنة الشيدر أو الجاودا.
بطبيعة الحال، لا يتميز أي نوع من الجبنة بلون برتقالي طبيعي، حيث أن الحليب لا يحوي على أية مادة برتقالية اللون، كما أن العمليات البكتيرية فيه لا تحوله إلى درجة لونية زاهية إلى هذه الدرجة. ولهذا، نقدم لك قصة اكتساب الجبنة للون البرتقالي، في حال كنت من محبي القصص المثيرة عن نشأة الأشياء.
في القرن السابع عشر (أو السادس عشر... من لديه الوقت للتدقيق؟)، كان مزارعو الألبان والأجبان الإنكليز يحاولون زيادة إيراداتهم، ولهذا قرروا كشط الدسم عن الحليب الذي يستخدمونه لصنع الجبن، وتحويله إلى منتجات أخرى مثل الزبدة، أو حتى بيعه مباشرة للمستهلكين. ولكن ظهرت مشكلة جديدة، وهي أن الجبنة المصنوعة من هذا الحليب قليل الدسم لم تتمتع بتلك المسحة الصفراء التي توحي بالدسامة، ولهذا بدت أشبه بالجبنة منخفضة الجودة. غير أنهم لم يسمحوا لبضعة كتل دهنية أن تقف في طريقهم، ولهذا بدأوا ببساطة بإضافة اللون لمحاكاة شكل المنتجات كاملة الدسم. ومع مرور الوقت، تحولت عملية إضافة الألوان إلى أسلوب لزيادة تميز الجبن، وفي نهاية المطاف، أصبحت منتجات معينة مرتبطة بدرجات معينة من الأصفر أو البرتقالي، وما زال هذا التقليد مستمراً حتى الآن.
هناك نسخة أخرى من هذه القصة، أقرب للواقع ولكنها أقل "إثارة". فقد كانت الأجبان المصنوعة من الحليب المُنتج في الربيع والصيف ذات لون أقوى وأقرب للون الزبدة، وذلك لأن الأبقار تتغذى على الحشائش النضرة بدلاً من العلف. ولهذا، استخدم المزارعون التلوين للمحافظة على ثبات شكل الجبن على مدار السنة والتخفيف من مخاوف الزبائن حول تغير اللون مع تغير الفصول.
يمكنك أن تختار القصة التي تعجبك، لأنه ليس هناك وسيلة للتأكد من صحة أي منهما، ولكن هناك اثنان من الأشياء المؤكدة: الأول؛ هو أن لون الجبن كان يتغير على مدار السنة، والثاني؛ هو أن بعض الأجبان أصبحت برتقالية اللون بشكل تقليدي، على الرغم من عدم وجود أي نوع يتمتع بهذا اللون بشكل طبيعي.
تقول جينا مود، إحدى الباحثين القلائل المحظوظين المتخصصين بالأجبان في مركز أبحاث الألبان والأجبان في جامعة ويسكونسن ماديسون (كما أنها ترعرعت في مزرعة للألبان والأجبان أيضاً): "لم تعد السيطرة على تغيرات اللون خلال السنة السبب الأساسي للتلوين، بل المحافظة على التقاليد العريقة للأجبان". وتشرح أن تغذية الأبقار على مدار السنة أصبحت تعتمد، ومنذ قرن تقريباً1، على الأعلاف المؤلفة من الحبوب بدلاً من الأعشاب، وأن التغيرات في الحليب لا تظهر إلا لدى الأبقار التي تتغذى على الأعشاب.
تحتوي الأعشاب، على عكس الحبوب، على كميات كبيرة من البيتا كاروتين، وهو صبغة برتقالية موجودة أيضاً في الجزر، والقرع، والبطاطا الحلوة. تحول الأبقار جزءاً من هذه المادة إلى الفيتامين A، أما البقية فتخزن في الخلايا الدهنية، وينتقل هذا الدهن إلى الحليب لاحقاً. وبما أن البيتا كاروتين يبقى حبيساً داخل حبيبات الدهن نفسها، فإن اللون الأصفر لا يظهر بشكل واضح على الحليب، ولكن عند إضافة الأنزيمات اللازمة لصنع الجبنة أو الزبدة، تتفكك الحبيبات وتظهر هذه الصبغة.
1. لم تكن جينا متأكدة من آخر فترة ظهرت فيها تغيرات موسمية في ألوان الجبن. وقالت إنها ستستعلم ممن أطلقت عليهم اسم (علماء الألبان والأجبان)، ولكن عندما لم تحصل على جواب شافٍ منهم، قررت أن تتصل بوالدها جيم مود، وهو مزارع ألبان وأجبان من الجيل الخامس في ويسكونسن، وهو يتحدث على ما أعتقد بنفس اللهجة اللطيفة التي تستخدمها ابنته. وهذا ما قاله: "بعد الحرب العالمية الثانية، وانتشار البرادات والتزايد السكاني، ازداد الطلب على الحليب السائل، ما قاد إلى الانتقال من الأعلاف العشبية إلى الأعلاف المخزنة. وقبل ذلك، كان إنتاج الحليب يتزايد في الربيع والصيف ويقل في الخريف والشتاء، وكانت نسبة كبيرة منه تستخدم لإنتاج الزبدة والجبن".
هذا يعني أن الأجبان المنتجة من الأبقار التي تتغذى على الأعشاب تحمل مسحة صفراء واضحة. ويكفي أن تنظر إلى التغيرات في الصورة أعلاه، حتى في جبنة الشيدر غير الملونة.
نلاحظ في الصورة السابقة أن جبنة الشيدر المصنوعة من حليب الماعز هي الأشد بياضاً، لأن الماعز تحول كامل كمية البيتا كاروتين في غذائها إلى فيتامين A، ولا يبقى منها شيء ليلون الجبن. ومن ثم يبدأ اللون الأصفر بالتزايد تدريجياً حتى نصل إلى جبنة الشيدر النيوزيلندية، وتفسر مود ذلك بأن "نيوزيلندا تحوي أكبر عدد من الأبقار التي تتغذى على الأعشاب، ولهذا يتميز الجبن بلون ذهبي غني".
تُعزى بعض التغيرات أيضاً لنوع الأبقار التي تنتج الحليب. تقول مود: "بعض الأبقار تمرر كامل كمية البيتا كاروتين مباشرة بدون أن تغيرها. ومن أشهرها أبقار جيرنسي، حتى أنه كان هناك نوع من الجبن باسم جولدن جيرنسي اشتهر باللون الذهبي الجميل". ولهذا كانت هذه الأبقار من الأنواع المرغوبة لإنتاج الزبدة، والتي يعتمد لونها بشكل أساسي على محتوى الحليب من البيتا كاروتين.
كانت الزبدة أيضاً ذات لون ذهبي غني، وكان المصنّعون يستخدمون الصباغ للحفاظ على ثبات لونها على مدار السنة أيضاً. ولهذا كانت تُصبغ المارجرين (زبدة اصطناعية نباتية) باللون الأصفر القوي، لجعلها شبيهة بأفضل أنواع الزبدة. وقد بالغ المزارعون في هذا لدرجة دفعت المشرّعين في الولاية إلى وضع قوانين للحد من هذا الشبه بين المارجرين والزبدة الحقيقية. تقول مود: "كنت أصغر من أن أتذكر هذا بنفسي، ولكن كان أهلي يتحدثون عن حظر تلوين المارجرين، لأن ويسكونسن كانت تدعم مشتقات الحليب وتفتخر بإنتاجها. كانت المارجرين تُباع بيضاء تماماً، مع ظرف من صبغة الأناتو يمكنك أن تخلطها معها بنفسك. وقد كان البعض يذهبون إلى خارج حدود الولاية لشراء المارجرين الصفراء".
في نهاية المطاف، أُلغي هذا الحظر، وتبدو معظم أنواع المارجرين اليوم شديدة الاصفرار. ولكن اهتمام الناس بتلوين هذا المنتج لجعله يبدو أشبه بمنتج مصنوع من الحليب يبين لنا السبب الأساسي الذي يدعونا لتلوين الطعام: التأثير على النكهة.
إن هذا التأثير ليس فعلياً بالطبع، حيث أن الأناتو عديمة النكهة، وهي مجرد صبغة تغطي بذور نبتة Bixa orellana L، وهي تذوب بالدهن ولا تستخدم مع الجبن إلا بكميات صغيرة لا تؤثر على النكهة الحقيقية. وفي الواقع، من الممكن أيضاً إضافة البيتا كاروتين مباشرة إلى الحليب، ولكن مدرسة علوم التغذية في جامعة جيلف لاحظت أن "الحليب يصبح شديد الاصفرار، كما يكتسب الجبن المصنوع منه نكهة الجزر".
غير أن طريقة إحساسنا بالطعام تتأثر بما نعتقده حول مذاقه، وبالتالي، تبدو الأجبان البرتقالية والزبدة الصفراء مختلفة عن مثيلاتها باهتة اللون.
في الواقع، إن كافة أنواع جبنة الشيدر بيضاء اللون (باستثناء المصنوعة من حليب الأبقار المغذاة بالأعشاب)، ولكن بعض الناس يفضلون الأنواع البرتقالية لأنها تبدو أطيب مذاقاً. ولكن في حالة تذوقها معصوبي الأعين، لم يتمكنوا من الإحساس بالفرق. صحيح أن اللون البرتقالي ليس سوى مجرد صباغ، ولكنه يؤثر. وعلى الرغم من أن استخدام الأناتو لتلوين الأجبان بدأ مع الشيدر، تقول مود أن من أوائل المنتجات التي اعتمدت على التلوين للتسويق منتج إنكليزي مشابه يسمى ريد لايسيستر. وهي جبنة قاسية شبيهة بالشيدر، وتحتوي على الأناتو للحصول على لون برتقالي غامق. وعندما بدأ المزارعون المنتجون لهذا النوع بحملة لتسويقه، كانت جميع أجبان الشيدر بيضاء اللون، ما جعل هذا الجبن البرتقالي مميزاً.
انتقلت العدوى إلى جميع صانعي الأجبان، ومع مرور الوقت، أصبحت عملية التلوين جزء من تقاليد الصناعة لبعض الأنواع. بعض هذه الأنواع ذات لون برتقالي غامق مثل ريد لايسيستر، وبعضها بلون برتقالي فاتح أقرب للون الزبدة. وحالياً، يتوقع المستهلكون بشكل افتراضي أن تكون أجبان جاودا وإيدام وهافارتي بألوان حليبية فاتحة، وبالتالي يضيف مصنّعو هذه الأجبان مقداراً صغيراً من الأناتو لإغناء اللون. ومن الاستثناءات القليلة: جبنة موينستر، والتي لا تحاول محاكاة لون البيتا كاروتين على الإطلاق. وهي مصنوعة في إنكلترا، وتتميز بقشرة برتقالية ناتجة عن المتعضيات التي تعيش على السطح، ولكن النوع المصنوع في الولايات المتحدة يحوي على الأناتو لتقليد هذا الشكل فقط.
من سخرية القدر أن الألوان الناتجة بشكل طبيعي عن التغذية بالعشب أصبحت هي المميزة في عالم الأجبان في الولايات المتحدة. تقول مود: "إذا كنت صانعاً حرفياً للأجبان، فهذه من الأشياء التي تضفي رونقاً خاصاً ومميزاً على منتجاتك، مثل جبنة بليزانت ريدج ريزيف من أبلاند، وهي جبنة مشهورة بطعم مميز ناتج عن الحليب نفسه أيضاً". تصنع شركة أبلاند هذه الجبنة فقط من شهر مايو إلى نهاية شهر أكتوبر، لأن نوعية الحليب خلال هذه الفترة مميزة للغاية. أما في الخريف، عندما تتغذى الأبقار على التبن بدلاً من العشب النضر، تقوم الشركة بتصنيع نوع آخر من الجبن لا يتطلب وجود البيتا كاروتين للون أو النكهة. ويوجد فرق واضح بين النوعين.