اطلب من الناس تسمية المرأة الأكثر شهرة في تاريخ العلم، وستكون إجابتهم على الأرجح: السيدة ماري كوري. اسألهم عن العمل الذي أنجزته، قد يقولون إنه شيء يتعلق بالنشاط الإشعاعي، وقد اكتشفت كوري بالفعل النظائر المشعة للراديوم والبولونيوم. كما قد يعرف البعض أنها كانت أول امرأة تفوز بجائزة نوبل (في الواقع لقد فازت بها مرتين).
ولكن القليل منهم سيعرف أنها كانت بطلة عظيمة من أبطال الحرب العالمية الأولى. في الحقيقة، فإن من كان يزور مختبرها في باريس عام 1917 (قبل حوالي 100 سنة من الآن)، لم يكن ليجدها أو يجد عينات الراديوم الخاصة بها في المختبر، فقد كان الراديوم مخبأ، وكانت هي على الجبهة.
بدأت الحرب في أوائل عام 1914، عندما توجهت القوات الألمانية نحو بلدتها في باريس، وكانت تعلم أن أبحاثها العلمية تحتاج إلى أن تتوقف قليلاً. لذلك فقد جمعت كل مخزونها من الراديوم، ووضعته في حاوية مبطنة بالرصاص، ونقلته بالقطار إلى بوردو- على بعد 600 كيلومتر من باريس- وتركته في صندوق ودائع آمن في أحد البنوك المحلية، ثم عادت إلى باريس، واثقة من أنها سوف تسترد الراديوم بعد أن تنتصر فرنسا في الحرب.
والآن وبعد أن أصبح جوهر حياتها الذي تعيش لأجله مخبأ بعيداً عنها، أصبحت بحاجة لفعل شيء آخر، وبدلاً من الفرار من الاضطرابات التي تسود البلاد، قررت أن تلتحق بجبهة القتال. لكن كيف لامرأة في منتصف العمر أن تفعل ذلك؟ لقد قررت أن تعيد توجيه خبراتها العلمية باتجاه المجهود الحربي، ليس في مجال تصنيع الأسلحة، ولكن لإنقاذ الأرواح.
تجنيد الأشعة السينية في المجهود الحربي
تم اكتشاف الأشعة السينية، وهي نوع من الإشعاع الكهرومغناطيسي، في عام 1895 من قبل فيلهيلم رونتجين، الحائز على جائزة نوبل، وكما وصفتُ في كتابي "الوهج الغريب: قصة الإشعاع"، فقد بدأ الأطباء استخدام الأشعة السينية بعد اكتشافها مباشرة، بتصوير عظام المرضى وإيجاد الأجسام الغريبة، كطلقات الرصاص.
ولكن في بداية الحرب، كان وجود آلات الأشعة السينية مقتصراً على مستشفيات المدن، بعيداً عن ساحات القتال، حيث تتم معالجة القوات المصابة فيها. وكان حل كوري هو ابتكار أول "سيارة إشعاعية" - وهي مركبة تحتوي على جهاز أشعة سينية ومعدات غرفة مظلمة لتظهير الصور- والتي يمكن توجيهها إلى ساحة المعركة حيث يمكن لجراحي الجيش استخدام الأشعة السينية لتوجيه عملياتهم.
وتمثلت إحدى العقبات الرئيسية في الحاجة إلى الطاقة الكهربائية لإنتاج الأشعة السينية. وقد حلت كوري هذه المشكلة من خلال دمج دينامو (نوع من المولدات الكهربائية) في تصميم السيارة، وبذلك يقوم محرك السيارة الذي يعمل بالوقود بتأمين الكهرباء اللازمة.
وبسبب إحباطها من تأخر الحصول على التمويل من الجيش الفرنسي، لجأت كوري إلى الاتحاد النسائي الفرنسي، تلك المنظمة الخيرية التي منحتها المال اللازم لإنتاج السيارة الأولى، والتي انتهى بها الأمر لتلعب دوراً هاماً في علاج الجرحى في معركة مارن عام 1914، والتي كانت انتصاراً رئيسياً للحلفاء منع الألمان من دخول باريس.
وكانت هناك حاجة إلى المزيد من السيارات الإشعاعية، لذلك استغلت كوري نفوذها العلمي لتطلب من النساء الباريسيات الميسورات التبرع بالمركبات. وسرعان ما أصبح لديها 20 مركبة مجهزة بمعدات الأشعة السينية. لكن السيارات كانت عديمة الفائدة دون فنيي الأشعة السينية المدربين، لذلك بدأت كوري بتدريب النساء المتطوعات، وقد قامت بتجنيد 20 امرأة في الدورة التدريبية الأولى التي كانت تدرّس فيها مع ابنتها إيرين، والتي ستفوز بعد ذلك بجائزة نوبل كوالدتها.
وتضمن المنهج تعليماً نظرياً حول فيزياء الكهرباء والأشعة السينية، فضلاً عن الدروس العملية في علم التشريح والتصوير الفوتوغرافي. وعندما انتهت هذه المجموعة من تدريبها، غادرت إلى الجبهة، ثم قامت كوري بتدريب المزيد من النساء، حتى وصل عددهم إلى 150 امرأة.
ولم تكتف بإرسال المتدربين إلى جبهة القتال، فقد كانت كوري نفسها تملك عربية "كوري" صغيرة -حيث تم إطلاق اسمها على العربات- وكانت تأخذها إلى الجبهة. وقد تطلّب هذا منها تعلّم القيادة، وتغيير الإطارات المسطحة، والقيام ببعض أعمال ميكانيك السيارات الأولية، مثل تنظيف وحدة الكربنة. كما كان عليها أيضاً التعامل مع حوادث السيارات، فعندما انحرف سائقها مرةً إلى أحد الخنادق وقلب السيارة، قاما بتصحيح مسارها، وإصلاح المعدات التالفة على أفضل ما يمكن، وعادا إلى العمل.
وبالإضافة إلى العربات الصغيرة المتنقلة التي جالت حول جبهة القتال، أشرفت كوري أيضاً على بناء 200 غرفة إشعاعية في مختلف المستشفيات الميدانية الثابتة وراء خطوط المعركة.
ماري كوري في ظلال الأشعة السينية
وعلى الرغم من إصابة القليل من النساء العاملات في التصوير الشعاعي نتيجة القتال، فإنهن لم يكنّ بمعزل عن إصابات الحرب. فقد عانت الكثير منهن من الحروق الناتجة عن التعرض الشديد للأشعة السينية. كانت كوري تعلم أن مثل هذه التعرضات العالية تشكل مخاطر صحية مستقبلية، مثل السرطان، لكن لم يكن هناك وقت لتحقيق إجراءات السلامة من الأشعة السينية. وانتاب كوري القلق الشديد بسبب تعرض الكثيرين للإشعاع، لذا ألفت كتاباً فيما بعد حول إجراءات السلامة من الأشعة السينية مستقاة من تجربتها أثناء الحرب.
نجت كوري من الحرب، لكنها كانت قلقة من أن عملها المكثف على الأشعة السينية سيؤدي في نهاية المطاف إلى وفاتها. وبعد سنوات، أصيبت بفقر الدم اللاتنسجي، وهو اضطراب في الدم ينتج في بعض الأحيان عن التعرض الشديد للإشعاع.
وقد افترض كثيرون أن مرضها كان نتيجة لعملها لعقود على الراديوم، فمن الثابت تماماً أن الراديوم المكتسب قاتل، لكن كوري لم تقتنع بهذه الفكرة، لأنها كانت تحمي نفسها دائماً من إشعاع الراديوم، لكنها عزت مرضها إلى التعرض الشديد للأشعة السينية خلال الحرب. ولا ندري بالضبط إذا ما كانت الأشعة السينة خلال زمن الحرب قد ساهمت في وفاتها في عام 1934، ولكن أظهرت عينة من بقاياها في عام 1995 أن جسدها كان خالياً بالفعل من الراديوم).
وكأول امرأة مشهورة في مجال البحث العلمي، لا يمكن اعتبار ماري كوري امرأة غير محتفل بها، لكن التصور الشائع لها كامرأة ذات اهتمام واحد، تكدح في مختبرها لتحقيق هدف وحيد هو تطوير العلم من أجل العلم، هو أبعد ما يكون عن الحقيقة.
تميزت ماري كوري بشخصية متعددة الجوانب، فلقد كانت تعمل بإخلاص كعالمة وهو ما لم يطغى على جوانبها الإنسانية. كانت كوري امرأة تشعر بانتماء بالغ تجاه وطنها الجديد، حيث هاجرت من بلدها الأم بولندا إلى فرنسا. وقد نالت شهرتها العلمية بما قدمته لبلدها من خدمات أثناء الحرب، عندما أنفقت ما ربحته من ثاني جائزة نوبل حصلت عليها لشراء سندات الحرب، وحتى محاولتها لصهر قلادات جائزة نوبل لتحويلها إلى مبالغ نقدية لشراء المزيد من السندات.
ولم تسمح للمجتمع ذكوري أن يعيقها، بل قامت بتعبئة جيش صغير من النساء في محاولة للحد من المعاناة الإنسانية والفوز بالحرب العالمية الأولى. ومن خلال جهودها، يقدر أن عدد إجمالي الجنود الجرحى الذين تلقوا فحوص الأشعة السينية خلال الحرب تجاوز المليون شخص.