حققت الملكة الفرعونية حتشبسوت العديد من المآثر في عهدها الذي حكمت فيه مصر قبل 3500 سنة مضت. وبصفتها إحدى الملكات الإناث القلائل اللائي وصلن لسُدة الحكم، اغتمنت فرصة كون مقاليد السلطة بيدها لتحقيق إنجازات صعبة ومذهلة. منها أنها شيدت من المعابد والمسلات ما لم يسبق تشييده من قبل من ناحية البراعة الهندسية أو الحجم أو العدد. وكما تروي لنا كتب التاريخ، أرسلت هذه الملكة الفرعونية من قِبلها البعثات الاستكشافية، تضم خبراء في التجسس النباتي، نجحوا في جلب أول شجرة مرّ تدخل تلك الإمبراطورية العريقة.
يعرف الأميركيون الآن شجرة المرّ وشقيقتها شجرة اللبان، ويعود سبب ذلك إلى حكاية وردت في الكتاب المقدس عن ثلاثة من الرجال الحكماء. حيث ورد في إنجيل متّى، أن ثلاثة من المجوس (وهي تترجم قديماً إلى الرجال الحكماء) اتبعوا نجم بيت لحم حتى وصلوا إلى المكان الذي ولد فيه السيد المسيح عليه السلام، ومنحوه ثلاثة هدايا هي: الذهب واللبان والمُرّ. إلا أن دوغلاس دالي، أمين المجموعات لدى حديقة نيويورك النباتية وخبير في عائلة أشجار المرّ واللبان، يقول أن هذه المادتين (وهي أصماغ تنتج عن شجرتيها) تحظى بتاريخ حافل وثريّ جداً عدا ذكرها ضمن حكاية وردت في الكتاب المقدّس. وعلى رغم مرور آلاف السنين على استخدام هذه المواد ودراستها، إلا أنها لا زالت تجود علينا بأفكار جديدة حتى يومنا هذا.
إذا صدف وأن حملت بين يديك المنتج النهائي لشجرة اللبان، فستجد أنه يشبه الزبيب الصغير الأسود أو الفشار المتحجر. حيث يتكون اللبان من كريّات صفراء صغيرة جافة ولامعة بعض الشيء. يقول دالي "يروق لي أن أشبه عملية انتقائها بعملية تصنيف الماس. إذا يتمحور الأمر حول اللون والشفافية والشكل". أما المُرُّ فهو أكثر خشونة ولونه بني وأحياناً يضم شوائب أكثر من اللبان، مع أنه يشبهه من ناحية الحجم ومستوى اللمعان. مع ذلك فقد تطلب جلب هذه النباتات إلى حديقة نيويورك النباتية الكثير من الجهد والعمل.
يتمثل اللبان والمرّ في راتنج (صمغ) يُستخرج من أشجار تنتمي إلى عائلة البُرْسَرِية (Burseraceae)، والتي تعرف أيضاً باسم العائلة البخورية. يأتي اللبان من النسغ المجفف لأشجار البخورية، في حين يفرز المرّ من النسغ الحيويّ لأشجار الكُمِّيْفُوْرة (البلسان). تعد عملية استخراج النسغ من هذه الأشجار مهارة تتطلب البراعة لأنها تنطوي على جرح الشجرة دون أن تقتلها. عندما ينجح البستاني في فعل ذلك بشكل صحيح، سيطلق الجرح في الشجرة عملية تدعى "التصَمُّغ"، التي تعني بالضبط ما تفهمه منها: محاولة الأشجار أن تجعل الجروح تلتئم من خلال إفراز الصمغ، وهكذا يتمكن البستاني من كشط هذا الصمغ الراشح والحصول على ما يريده. بهذا الصدد يقول دالي "أن الناس وعلى مدى آلاف السنين من التمرّن، تعلموا إلى أي حدّ يمكنك جرح هذه الأشجار".
ومع أن أشجار البخوريات تشي بالعوالم القديمة والتراثية، إلا أنها لا زالت موجودة في المناطق الاستوائية من قارتي أفريقيا وآسيا وصولاً إلى أمريكا الوسطى والجنوبية. ويضيف دالي "أينما ذهبت أجد أن هذه الأشجار لا زالت تستخدم كما كانت تستخدم في قديم الزمان...مع أن الأشجار توجد في أماكن متباعدة حيث الناس الذين يتبعون نفس الطريقة في استخراج الصمغ لم يتصلوا ببعضهم أبداً من قبل". تضم الشجرة من لحائها إلى النسغ الذي يجري في أوعيتها على مادة عطريّة فواحة، لذلك ما من عجب في أن يستخدم كل من اللبان والمرّ كبخور وعطور فوّاحة. من الناحية التاريخية، اُستخدم المُرّ أيضاً كمادة سائلة للتحنيط، ومن هنا نبع اهتمام الملكة الفرعونية حتشبسوت بهذه الشجرة. كما أن كلتا المادتين: اللبان والمرّ لهما قيمة دينية، حيث كانت تلقى في النار ليتضوع منها البخور تكريماً للآلهة وطرداً للشياطين والأرواح الشريرة. إلا أن دالي يشير إلى أن لهما استخدامات عملية أخرى أيضاً، منها أن الناس حتى يومنا هذا "لا زالوا يستخدمون اللبان والمرّ في عشرات إن لم تكن مئات الاستخدامات، من مساعدة النساء على الحمل إلى حثّ أبقارك على درّ المزيد من الحليب". ومن بين هذه الاستخدامات أن هذه الأصماغ عندما تمزج ببعض المكونات الأخرى، تمكنك من سدّ صدع أصاب قاربك البحريّ. ويواصل دالي كلامه "عندما ترى طول لائحة استخدامات هذه الأصماغ، ستشعر بالدهشة".
في عصرنا الحالي، لن ترضى أن يهديك أحدهم لباناً ومراً ويهدي صديقك الذهب (إلا إن وعدك بمقاسمته لاحقاً). إلا أنه في العصور القديمة، كانت قيمة هذه الأصماغ النباتية معادلة لقيمة الذهب بل وأحياناً أكثر منها. في هذا السياق، يقول دالي أن الإمبراطورية الرومانية مرّت بعجز مالي في القرن الأول الميلادي، بسبب أنها كانت تستورد مئات الأطنان من هذه المواد العطرية الفوّاحة كل عام. ويروق لدالي أن يشبه "الهوس باللبان" هذا بحروب النفط التي دارت رحاها في العصور الحديثة. لذلك لم يكن جواسيس الملكة الفرعونية حتشبسوت الذين غامروا بالسفر حتى "أرض البنط"، أو إريتريا الآن، مجرد سيّاح يبحثون عن أشجار جميلة للاستخدام الشخصي. بل كانوا في مهمة لجلب أشجار كاملة من اللبان والمرّ يمكن زراعتها ومن ثم تأمين مصدرٍ قوميّ لهذه المواد النفيسة "ذلك أن الحصول عليها كان يكلّف الأموال الطائلة، وقد سئموا من تحمل هذه التكاليف" يقول دالي. وفي حال لم تنجح زراعتها في الوطن الأم، لم يكن هؤلاء الحكّام القدماء للعالم سيتحرجون من غزو تلك الأراضي التي تنبت فيها تلك الأشجار طبيعياً وضمها إلى ممالكهم.
لكن وعلى رغم مرور آلاف السنين على الاستخدام المُوثّق لأصماغ هذه الأشجار، إلا أن علماء النباتات لا زالوا يرونها منجماً للأسرار والاكتشافات التي لم يسبق للبشر معرفتها. بهذا الصدد، يستذكر دالي أيام بحثه الأولى عن عينات هذه الأشجار قائلاً "أن عائلة أشجار اللبان والمرّ لا زالت حقاً غامضة في حقل علم النبات، حيث أن العديد من أنواع هذه العائلة الشجرية إما أنها غير معروفة أو تم تصنيفها علمياً بشكل خاطئ". ومع أن التجارب الجينية مكنت العلماء من تصنيف هذه الأشجار علمياً بشكل أدقّ، إلا أن أنواعاً جديدة من عائلة الأشجار البخورية لا زالت تظهر بين الفينة والأخرى، حتى ضمن الأراضي والبلدان التي ظن العلماء أنهم تعرفوا على كافة أنواعها النباتية.
أما من ناحية السعر، ومع أن سعرها لا يصل إلى ذلك المستوى الذي كان عليه في عهد الإمبراطورية الرومانية إلا أنه ليس رخيصاً كذلك. حيث يشكل اللبان والمرّ زيوتاً عطرية أساسية في العديد من الصناعات، وهي مكونات أساسية ضمن موضات المعالجة العطرية (العلاج بالتدليك بالزيوت النباتية الطبيعية ذات الروائح المنعشة) المنتشرة كثيراً في أيامنا هذه. في الواقع، لا زلنا بحاجة إلى المزيد من البحوث التي تدرس تأثير هذه المواد العطرية على الدماغ ومدى تخفيفها لحدة التوتر والقلق، لكن وحتى تصدر تلك الدراسات، يبلغ سعر القنينة ذات 10 الغرامات من اللبان 12 دولاراً على متجر أمازون، في حين يصل زيت المرّ إلى 15 دولار لنفس الكمية. لكنك قد تسأل: ماذا عن سعر الذهب؟ هذا سيكلفك فاتورة تصل إلى 428 دولار لعشر غرامات تقريباً من الذهب الخام.