نودّ جميعاً بأن ننسى بعض الأشياء في ماضينا، مثل الانفصال والتجارب المؤلمة وفقدان الأحبة. ولكن مهما بذلنا من جهد لنسيان هذه الذكريات، إلا أنها قد تستمر في ملاحقتنا، مما يؤدي في بعض الأحيان إلى إثارة بعض الحالات النفسية المرضية مثل القلق أو الرهاب أو اضطراب ما بعد الصدمة. ولكنّ العلماء على وشك تغيير ذلك إلى الأبد، مع اكتشافهم بأن ذكرياتنا لا تبقى بشكل دائم كما كنا نعتقد سابقاً.
إذ نجح علماء الأعصاب في المركز الطبي لجامعة كولومبيا وجامعة ماكغيل في مسح بعض الذكريات من الخلايا العصبية لأحد أنواع الحلزونات، ويمكن أن تكون هذه الطريقة قابلة للتطبيق على عقول البشر أيضاً. وتشير النتائج إلى أنه قد يكون من الممكن تطوير أدوية لمسح الذكريات التي تثير القلق واضطراب ما بعد الصدمة دون التأثير على الذكريات المهمة الأخرى للأحداث الماضية.
إذاً كيف يمكن مسح الذاكرة؟ لفهم ذلك، لا بدّ أولاً من فهم كيفية تشكّل الذكريات والحفاظ عليها في أدمغتنا. حيث يتم تشكيل الذاكرة عندما تقوم البروتينات بتحفيز خلايا الدماغ على النمو وتشكيل ارتباطات جديدة. وبمجرد أن يحدث ذلك، يتم تخزين الذاكرة في الدماغ، وتُحفظ عند معظم الأشخاص طالما أنه يتم تذكرها.
يعدّ الأمر بسيطاً حتى الآن. ولكن الذكريات طويلة الأمد ليست مستقرة، حيث تزداد مرونة مع كل مرة نتذكرها فيها، وتصبح أقوى وأكثر وضوحاً من ذي قبل. إذ يتواسط هذا النوع الذكريات المشابك العصبية، وهي الأنابيب التي تسمح للخلايا العصبية بتمرير الإشارات فيما بينها. ويمكن لقوة المشابك العصبية أن تزيد وتنقص، وهو الأمر المسؤول عن الحفاظ على الذاكرة. وقد تمكن الباحثون من عكس التغيرات طويلة الأمد في المشابك العصبية والتي تعرف بمساهمتها في أشكال مختلفة من الذكريات.
وقد قام الباحثون بتحقيق هذا الإنجاز من خلال تعديل البروتينات الضرورية لتكوين الذاكرة في الدماغ. حيث تبيّن أن جزيئات البروتين (PKM) تعزّز من تشكيل الذكريات والمحافظة عليها، بينما يلعب البروتين (KIBRA) دوراً حاسما في حماية البروتين (PKM). وقال الباحثون بأن تعطيل أي من هذين البروتينين يمكن أن يؤدي إلى محو الذاكرة بشكل جزئي أو كامل. والأمر المهم أنه لا يحدث أي ضرر للخلايا العصبية عندما تتعطل هذه البروتينات. فعندما يتم مسح الذاكرة، تعود وظيفة الخلايا العصبية ببساطة إلى الحالة التي كانت عليها قبل تشكيل الذاكرة.
ومن الجدير بالذكر بأنه خلال الأحداث العاطفية أو الصادمة، يمكن تشكّل العديد من الذكريات، بما فيها ذكريات حول أي معلومات عرضية موجودة عند وقوع الحدث. ويقول الباحثون بأنه في حالة وجود تجربة مؤلمة، فإن المعلومات العرضية يمكن أن تؤدي إلى نوبات من القلق حتى بعد فترة طويلة من وقوع الحدث.
فإذا كنت تسير في منطقة ذات معدل مرتفع من الجرائم، ودخلت في طريق مظلم وتعرضت للهجوم، وصادف أن رأيت صندوق بريد بالقرب من المكان، فقد تتوتر بالفعل عندما تريد إرسال رسالة بالبريد في المستقبل. ففي هذا المثال، يكون الخوف من الطرقات المظلمة هو من الذكريات المهمة المرتبطة بتجربة سابقة. أما الخوف من صناديق البريد، فهو من الذكريات العرضية التي لا ترتبط مباشرة بالحادث الصادم.
ويهدف البحث إلى وضع استراتيجيات للقضاء على الذكريات العرضية التي قد تخزن في الدماغ أثناء المرور بتجربة مؤلمة دون الإضرار بالذكريات المهمة المرتبطة بالتجربة، والذي من شأنه أن يساعد الناس على اتخاذ قرارات أفضل في المستقبل، مثل عدم الذهاب إلى الطرقات المظلمة في المناطق مرتفعة الجرائم.
والتطبيق الرئيسي لهذه التقنية بعد دراسة استخدامها بأمان عند البشر هو محو الذكريات التي تؤدي إلى القلق أو الصدمة. إذ يمكن للأشخاص الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة أو الاعتداء أن يستفيدوا من فوائد مسح هذه الذكريات بشكل انتقائي، وخصوصاً عندما تثير تلك الذكريات ردود الفعل العاطفية غير السليمة والتي تؤثر على حياة الشخص بطريقة سلبية.
وليس الهدف من هذه التقنية استخدامها عند الأشخاص الذين يريدون بعض الدعم في الخروج من علاقة عاطفية سابقة، والتي تنطوي على شبكة معقدة من الذكريات ومن الصعب جداً مسحها بشكل انتقائي. ولكن هذا لا يعني عدم إمكانية تطبيق شيء مشابه لذلك يوماً ما. كما أنه ما يزال هناك طريق طويل لتطبيق هذه التقنية على البشر.
ولا بدّ من إجراء المزيد من الأبحاث قبل تطبيق هذه الدراسة الحديثة على البشر، ولكن التجربة تدل على أن هناك آليات متنوعة تحافظ من خلالها الخلايا العصبية على الذكريات في الدماغ، وتعطي الأمل بأننا سوف نتمكن في أحد الأيام من مسح الذكريات المرضية بشكل انتقائي.