لا شك أن البحث العلمي بات يشكل جانباً هاماً للغاية بالنسبة للكثير من القطاعات الصناعية، ومن المعروف أن هناك مراحل متسلسلة تسلكها الشركات انطلاقاً من نتائج البحث العلمي المثبتة، وصولاً إلى التطبيقات والحلول التقنية المختلفة، حيث تبدأ رحلة التطبيق من وضع النماذج الأولية التي تثبت صحة المفاهيم والأفكار المبتكرة، مروراً بمراحل الاختبارات داخل الشركات وخارجها، وتنتهي بالإصدارات النهائية القابلة الصالحة للاستخدام من شرائح المستهلكين المستهدفة.
وعلى الرغم من أن هذه المراحل شهدت تطوراً ملحوظاً في كيفية إدارتها وتخفيف تكاليفها ورفع كفاءة المنتجات قدر الإمكان لتكون عند حسن ظن العملاء والمستهلكين، تبقى لهذه المراحل خصوصيتها المميزة في قطاع الطب والصناعات الدوائية. فعندما تقرر شركة معينة أن تطور دواءً جديداً يخص مرضاً معيناً، ستكون محطتها الأولى لتحقيق ذلك هي اللجوء إلى آخر ما تم نشره من الأبحاث العلمية المتعلقة بالموضوع، وبعد أن تستقر على مجموعة من الدراسات والأوراق العلمية التي تتعلق بالتركيبات الدوائية التي تحاول تجربتها، تنتقل إلى مرحلة تصنيع هذه التركيبات في مختبراتها، ثم تصل بعد ذلك إلى المرحلة الأكثر أهمية، وهي مرحلة الاختبارات السريرية. فهي المرحلة الحاسمة بالنسبة للشركة، لأنها تنقل التركيب الدوائي من مرحلة التطوير المخبري إلى التصنيع وفق كميات كبيرة تطرح إلى الأسواق.
ولكن ماذا لو فشلت الاختبارات السريرية؟ عندما يتأكد فشل الاختبارات السرية، سيعود مختصو الشركة بالطبع إلى مرحلة التصنيع المخبري، وبالتالي العودة إلى دورة جديدة من تطوير النموذج الأولي الدوائي، حيث تتم مراجعة كل المراحل السابقة وصولاً إلى نتائج الأوراق العلمية نفسها. ولا شك أن محاولة التصنيع المخبري ستتكرر، ربما مرات ومرات، وتتكرر بعدها مرحلة الاختبارات السريرية، وفي الوقت الذي يتوصل فيه المختصون إلى قناعة تامة بفشل التركيبات الدوائية التي يحاولون تطبيقها، تكون الشركة قد تكبدت خسائر كبيرة ربما أكثر مما نتصور.
هذه المعضلة كانت الحافز الأساسي الذي دفع الدكتور أحمد الخطيب، الأخصائي في علم الأحياء الجزيئي، إلى تأسيس شركة "هايف ساينتيفيك" العام الماضي في مدينة كامبريدج، في بوسطن. في تصريح لبوبيولار ساينس العربية، قال الخطيب: "إن 90% من أوراق البحث العلمي في مجال الطب الحيوي لا يمكن إعادة تطبيق نتائجها بشكل مستقل". ويضيف: "في الوقت الحالي، ينتج المجتمع العلمي أكثر من مليون ورقة علمية في مجال الطب الحيوي كل عام، ويتوقع للعدد الإجمالي للأوراق العلمية أن يتضاعف خلال السنوات الخمس عشرة القادمة ليصل إلى أكثر من 50 مليوناً".
وفقاً للدكتور أحمد، فإن معضلة عدم إمكانية الإنتاج تكلف قطاع الصناعات الدوائية مليارات الدولارات كل عام، حيث تقارب نسبة النجاح بين الاختبارات السريرية للتركيبات الدوائية المطورة 10% فقط، والجزء الأكبر من التجارب الفاشلة التي تعبر عنها هذه النسبة قد يعود إلى المساوئ التي تشوب البحث العلمي في المراحل ما قبل السريرية.
يقول الخطيب في معرض حديثه عن الشركة التي يعمل كمدير تنفيذي فيها، إن شركة هايف قد طورت مقاربة تحليلية لقياس الثقة بنتائج البحث العلمي بالاعتماد على معايير موحدة وموضوعية. ويتابع: "إن هدفنا هو التمييز بين الحقائق العلمية المتينة والتكهنات. تتضمن المقاربة التي نتبناها إنشاء شبكة هائلة من المختصين في العمل الأكاديمي، الذين يمتلكون الحافز لكي يزودوا "المحرك التحليلي" (محرك بحث واستدلال) الذي طورناه بالبيانات التجريبية اللازمة".
ويضيف: "هدفنا النهائي هو أن نجمع كافة النتائج العلمية التي يتم نشرها بالتركيز على المستوى التفصيلي لكل منها، ونقيمها من خلال المراحل التحليلية لدينا، ثم نستخدم المعرفة التي يتم استخلاصها لنقوم بتوليد فرضيات جديدة من خلال تقنيات التعلم الآلي". وعن المرحلة النهائية يقول: "في النهاية، سيتم اختبار جميع هذه الفرضيات باستخدام منصات روبوتية". ويضيف: "لذلك، فإن رؤيتنا هي بناء شركة يمكنها أن تنتج الاكتشافات العلمية، والملكية الفكرية على نطاق واسع".
يعتبر الدكتور أحمد أن تطوير الصناعات الدوائية يمثل السوق الأولية التي تستهدفها لشركته، إضافة إلى إمكانية استقطاب رؤوس الأموال الاستثمارية، ومساعدة الباحثين ليتمكنوا من تطوير خبراتهم في مجال الطب الحيوي خلال فترات زمنية قصيرة نسبياً. وتكمن رؤية الشركة على المدى البعيد في أتمتة الاكتشافات العلمية. فما تطمح إلى تحقيقه هو إحداث ثورة في المنهج العلمي من خلال إدماج تقنيات الذكاء الاصطناعي في الخطوات الأساسية التي تتخلل ينية المنهج العلمي الحديث.
الجدير بالذكر، هو أن هايف، قد وصلت حالياً إلى القائمة النهائية بين الشركات المتنافسة في مسابقة التحدي التي تقيمها مسرّعة الشركات الناشئة "ماس تشالينج"، حيث تم اختيارها لتكون ضمن قائمة أفضل الشركات الناشئة على مستوى العالم والتي بلغت نسبتها 8% من أصل 1500 شركة.