يمكن للمرء أن يفترض بأن العديد من أقوى أعضاء الجنس البشري هم نخبة الرياضيين. وإذا كانت الأذرع القوية هي ما تفكر به بشكل خاص، فإن المجدفات بشكل جماعي - اللواتي يبذلن بشكل روتيني قوة تعادل أكثر من وزن جسمهن بمرات عديدة لدفع القارب إلى الأمام بأسرع ما يمكن للإنسان فعله - هن الأفضل في ذلك. ولكن وفقاً لدراسة جديدة، فحتى أذرع هؤلاء الإناث من نخبة المجدفين لا تعادل شيئاً بالمقارنة مع نساء ما قبل التاريخ.
وفي دراسة نشرت الشهر الماضي في دورية سسيانس أدفانسس، قارن باحثون في جامعة كامبريدج عظام النساء اللواتي كنّ يعشن في أوروبا الوسطى خلال أول 5500 سنة من العمل بالزراعة مع عظام الطالبات العاديات في الجامعة، بالإضافة إلى أعضاء فريق التجديف النسائي في الكلية. وعلى ما يبدو، فإن نساء ما قبل التاريخ كان بإمكانهن تشكيل فريق تجديف قوي جداً، لدرجة أنهن قد يقذفن بالفرق الحالية الأخرى إلى خارج الماء.
وكانت الزراعة تتفوق على الصيد والبحث عن الطعام، وكانت النساء يقمن ببعض التدريبات الثقيلة. لقد كنّ يحصدن المحاصيل ويسوين الأرض لزراعة الحبوب بدون أي آلات حديثة. وعندما قارن الباحثون صلابة عظم العضد، وهو مقياس لقوة العظام والعضلات، كانت أذرع نساء ما قبل التاريخ أقوى من أذرع كل من الطالبات العاديات في الجامعة وكذلك أعضاء فريق التجديف. ويعتقد الباحثون بأن الحركة المتكررة المطلوبة لطحن الحبوب أدت إلى امتلاكهن لهذه الأذرع القوية.
وتعدّ هذه المقارنة هي الأولى من نوعها. إذ لم يقم العلماء في السابق بعمل خاص لتقدير قوة النساء اللواتي كنّ يعشن قبلنا بقرون. في الواقع، لم يقارن الباحثون أبداً بين بقايا عظام الإناث القديمة مع عظام النساء اللواتي يعشن الآن. وبدلاً من ذلك، قاموا بمقارنتها مع عظام الرجال من نفس الوقت ونفس المنطقة.
ولكن هذا لا يقدّر قوة المرأة بدقة، كما تقول مؤلفة الدراسة أليسون ماكنتوش، عالمة الآثار في جامعة كامبريدج. فمن المحتمل أن تقلل نتائج هذه الدراسات من المطالب الجسدية المطلوبة من النساء في تلك الفترة.
ويُذكر بأن العظام هي أنسجة حية، مثلها مثل العضلات التي تحيط بها. ويمكن لبعض الجهود كالقوة الجسدية وزيادة النشاط العضلي أن تجهد العظام وتؤدي إلى تغيرات واضحة في شكلها وثخانتها وكثافتها. ولكن طريقة تغير عظام الذكور من الناحية البيولوجية هي أكثر إثارة بكثير من التغيرات البيولوجية للأنثى. إذ لا توجد علاقة خطية بين حجم العمل وضرر العظام. وتقول ماكنتوش بأن السبب هو أن هرمونات التستوستيرون والاستروجين تؤثر على الأسطح الداخلية والخارجية للعظام بدرجات مختلفة.
وتقول ماكنتوش: "يعزز التستوستيرون بناء العظم على السطح الخارجي، والذي يعتبر مفيداً من الناحية الميكانيكية وله تأثيرات كبيرة على قوة العظام، في حين أن هرمون الاستروجين يميل إلى تعزيز كثافة العظم ونشاطه على السطح الداخلي، والذي ليس له تأثير كبير على قوة العظام".
وبعبارة أخرى، فإن محاولة تحديد قوة عظام النساء والمطالب التي تكون عليها من خلال مقارنتها مع عظام الرجال هو أمر مثير للسخرية. ولكن ما يزال العلماء حتى الآن مقتنعين بمقارنتهم بين التفاح والبرتقال.
وبدلاً من ذلك، قارنت ماكنتوش وفريقها في الدراسة الجديدة بين عظام النساء الأحياء، وكان ذلك بين العدّاءات ولاعبات كرة القدم والمجدفات، وبين أولئك الذين لديهن أنماط حياة أكثر استقراراً. وكانت المجدّفات هن الأكثر إثارة للاهتمام، لأن رياضتهن - أي الحركة المتكررة لأذرع المجدّفة وساقيها - هي الأقرب إلى المطالب اليومية المفترضة لنساء ما قبل التاريخ.
وتبين بأن النساء العاديات في العصر الحجري الحديث (اللواتي كن يعشن قبل الآن بـ 7400-7000 سنة) كانت قوة الساق لديهن مساوية للمجدفات بشكل جماعي، ولكن عظام الذراع كانت أقوى من ذراع المجدفات بنسبة 11 إلى 16 في المئة، وأقوى من الطالبات العاديات في الجامعة بحوالي 30 في المئة (في جامعة كامبريدج على الأقل). أما نساء العصر البرونزي (اللواتي كن يعشن قبل 4300-4500 سنة) فكانت عظام الذراع لديهن أقوى من المجدفات بنحو 10 في المئة، ولكن عظام الساق كانت أضعف بنحو 12 في المئة.
وهذا يجعلنا نحن المتخصصين العاملين (الذين لا يحركون في الغالب سوى عضلات الأصابع أثناء جلوسهم طوال اليوم) نبدو ضعيفين جداً. حتى المجدفات الهواة ربما لم يكن بإمكانهن الاستمرار في سنوات ما قبل التاريخ. إذ كان على النساء في ذلك الوقت طحن الحبوب بأيديهن من خلال ضرب حجرين كبيرين ببعضهما مراراً وتكراراً فيما يسمى بالطاحونة اليدوية. وغالباً ما يتم إجراء ذلك لساعات في كل مرة. ففي المناطق القليلة من العالم التي لا تزال تستخدم هذه الطريقة، تقوم النساء بطحن الحبوب لمدة تصل إلى خمس ساعات في اليوم.
ولكن ماكنتوش تقول بأن ذلك لم يساهم في قوتهن إلى تلك الدرجة. إذ أنهن كن أيضاً يجلبن المياه، ويحلبن الأبقار، ويصنعن الملابس من الجلود والصوف. في الواقع، عندما قارن الباحثون قوة عظم الساق بين النساء الأحياء في العصر الحديث وبين بقايا عظام ما قبل التاريخ، فقد وجدوا تبايناً واسعاً. إذ كان لدى بعض نساء ما قبل التاريخ ساقا عداءات النخبة، في حين بدا البعض الآخر أشبه بطالبات الجامعة كثيرات الجلوس. وتقول ماكنتوش بأن هذا يشير إلى أن هناك تبايناً واسعاً فيما كانت تفعله النساء في تلك المجتمعات.
وتخطط ماكنتوش لمواصلة العمل في المستقبل على هذه المقارنات لكشف المزيد من الأسرار عن النساء العاملات بجدّ في الماضي. وتضيف: "نحن نعمل حالياً على توسيع ما يمكننا تفسيره عن حياة الشخص من عظامه فقط، من خلال جمع المزيد من البيانات من الرجال والنساء الأحياء، ودمج المعلومات عن عضلاتهم ودهونهم أيضاً".
ولكن لا تعدّ هذه الدراسة مثيرة بسبب نتائجها المباشرة فقط. فبعد سنوات من الاستنتاجات المضللة المستندة على سوء فهم عظام الإناث، فمن غير المتوقع أن نعرف ما يمكن أن نتعلمه من مثل هذه المقارنات في المستقبل. وكما تشير ماكنتوش في دراستها، فإن هذه الاكتشافات ستساعدنا على فهم كيف تكيفت النساء مع مختلف أحجام العمل، وكيف ساهم عملهن في تشكيل التاريخ الثقافي.