ما زلنا لا نملك أي نموذج آخر يوضح على نحو أفضل كيفية تحرك الأجسام في الكون، بعد مرور أكثر من 100 عام منذ أن عرض «ألبرت أينشتاين» لأول مرة أفكاره حول الجاذبية، ونسيج الزمان والمكان. إن نظرية النسبية العامة تقدم تفسيراً مثبتاً وأكثر سلاسة من أي بديل مقترح في السنوات الأخيرة، بعد رصد موجات الجاذبية، والتقاط أول صورة لثقب أسود.
ولا تخلو نظرية النسبية العامة من أوجه القصور، فثمة ثغرات فيها رغم أنها تشرح أغلب ما نلاحظه في الكون، الأمر الذي أدى إلى ظهور نماذج بديلة لتفسير الجاذبية تحاول سد هذه الثغرات المعرفية. أحد هذه النماذج هي «نظرية الحرباء» المسماة (f(R لتفسير الجاذبية. تشير دراسة جديدة نُشرت في مجلة «نيتشر أسترونومي» إلى أنها قد تكون نموذجاً صالحاً لوصف كيفية تأثير الجاذبية في بعض أكبر الأجسام في الكون المعروف.
يقول «باوجيو لي»، أستاذ الفيزياء في جامعة دورهام بالمملكة المتحدة، وأحد المشاركين في الدراسة: «إن هذه الدراسة هي الأولى من نوعها التي تثبت أن نظرية بديلة لتفسير الجاذبية قادرة على محاكاة كيفية تشكل المجرات بصفة واقعية، بالرغم من السلوك المعقد لقوة الجاذبية». ويضيف: «مثل هذه الدراسات ستساعدنا على التحقق من صلاحية نظرية ما، وتحديد كيفية اختبار نظريات مختلفة لتفسير الجاذبية باستخدام بيانات الملاحظة المستقبلية».
إن «نظرية الحرباء» مصطلح جامع لفئة من النظريات التي تقدم تفسيراً يختلف عن التفسير المعتاد الذي تقدمه نظرية النسبية العامة. توجد أربع قوى أساسية في الكون: قوة الجاذبية، والقوة الكهرومغناطيسية، والقوة النووية الكبرى، والقوة النووية الصغرى، لكن «نظرية الحرباء» تقترح وجود «قوة خامسة» توجد في مناطق كثيفة من الفضاء، مثل النظام الشمسي، لكنها أكثر تأثيراً في المناطق منخفضة الكثافة.
يقول لي: «هذا السلوك الذي يتوقف أساساً على المكان أكسب النظرية اسم نظرية الحرباء». يوجد معظم الكون المعروف في مناطق منخفضة الكثافة، وهذا يعني أن ثمة إمكانية للعثور على إشارات تدل على وجود تلك القوة الخامسة واستخدامها لاختبار نظريات الحرباء. نظرية (f(R لتفسير الجاذبية إحدى هذه النظريات، ووفقاً لما قاله لي، فقد طرحها العلماء بوصفها بديلاً لنظرية النسبية العامة منذ سبعينيات القرن الماضي، إذ تمت دراستها في سياقات مختلفة؛ كنموذج لتفسير الجاذبية يشرح النشأة المبكرة للكون وحالته الراهنة.
زاد اهتمام العلماء بهذه النظرية في التسعينيات، وأوائل العقد الأول من القرن العشرين عندما أظهرت البيانات الكونية تسارع توسع الكون. يقول لي: «إنه على الرغم من أن نظرية النسبية العامة تقدم تفسيراً أكثر عملية لوصف هذا التوسع المتسارع من خلال تأثير الطاقة المظلمة، فإن ثمة تناقضات بين ما يتوقع هذا النموذج حدوثه وما لاحظه العلماء بالفعل في البيانات المُجمَّعة، وحقيقة أن الطاقة المظلمة لم يتم ملاحظتها بعد تُبقِي ثغرة مستمرة في نظرية النسبية العامة».
العبث بالجاذبية يعني عبثاً بكل شيء في الكون، لأن الجاذبية تحدد كيفية تجمع المادة في شكل صخور، وكويكبات، ونجوم، ومجرات؛ أي كيفية تشكل كل شيء. وإذا كانت نظرية (f(R لتفسير الجاذبية صالحة، فينبغي أن تشكل كوناً يشبه كوننا، تنتظم فيه المجرات في أشكال حلزونية وإهليليجية، لا أشكال عشوائية.
أجرى لي وفريقه محاكاة حاسوبية لنشأة الكون بالاعتماد على نظرية (f(R لتفسير الجاذبية، ووجدوا أن «مجرات مثل درب التبانة يمكن أن تتشكل وفق خصائص سبق ملاحظتها، حتى عند أخذ السلوك المعقد للقوة الخامسة في الحسبان». تحققت هذه النتيجة على الرغم من أن نموذج الجاذبية هذا سبّب تغيرات في مقدار الحرارة التي تنتجها الثقوب السوداء عند ابتلاعها المتغير للمادة الذي كان بالإمكان أن يخلّ بكيفية تشكل المجرات، لكن هذا لم يحدث.
ومع أن النتائج توضح أن ثمة نظريات أخرى يمكن أن تقدم تفسيراً للكون غير الذي تضعه نظرية النسبية العامة بين أيدينا، فإن لي وفريقه يؤكدون أنهم لا يدَّعون أن نظرية (f(R لتفسير الجاذبية صحيحة، أو أنها تدحض النسبية العامة؛ إذ إن الأمر يتعلق بنتائج محاكاة حاسوبية لا غير. وقد توجد فعلاً «قوة خامسة» تؤثر في كيفية تشكل الأجسام في الكون، لكن هذا البحث يبقى دراسة نظرية مُجرَّدة بدون ملاحظات وبيانات تثبت هذا.
يقول لي: «إن عمليات المحاكاة ذاتها مبنية على أساس بيانات راهنة، جمعت عن كيفية نشأة الكون»، ويضيف: «على المرء أن يأخذ في الاعتبار أن تشكُّل المجرات مجال بحثي تحدُث فيه اكتشافات متواصلة، وما زالت بعض الأمور غير مؤكدة». قياس إشارات خاطئة والثغرات الموجودة في البيانات والمتغيرات الأخرى كلها قد ينتج عنها بسهولة عمليات محاكاة ناقصة، ويختم بقوله «عدم ملاحظتنا للطاقة المُظلمة لا يعني أنها غير موجودة».
ولن نستطيع التخلي عن نظرية النسبية العامة إلا إذا تمكّنا من اختبار نظرية (f(R لتفسير الجاذبية وغيرها من «نظرية الحرباء» في العالم الحقيقي،وهذا أمر يصعب تحقيقه. نحن نعلم أن الحرباء تغير لونها لأننا شاهدنا هذا يحدث أمامنا، لكن كيف يفترض بنا أن نعاين قوانين الجاذبية وهي تتغير؟ كيف يمكن ملاحظة شيء مثل هذا؟ لا توجد إجابة بسيطة عن هذا السؤال.
يأمل الباحثون في دورهام أن يباشروا هذه المهمة باستخدام «مصفوف الكيلومتر المربع»، ومن المقرر له أن يبدأ الرصد في عام 2020. سيكون هذا أكبر تلسكوب لاسلكي في العالم، يمتد على قارتين، وسيكون قوياً بما يكفي لمعاينة نجوم ومجرات تشكلت مباشرة بعد الانفجار الكبير، وقد نتمكن في غضون بضع سنوات من جمع بيانات تكشف عن الطاقة المظلمة لتؤكد صحة نظرية النسبية العامة، أو سنتمكن من جمع معطيات تثبت نظرية الحرباء، وإن تعويض نظرية أينشتاين بنظرية تُسمَّى باسم أحد أنواع السحالي لا يبدو سيئاً البتة.