ما يميز البكتيريا أنها تتكاثر بسرعة، ومن مساوئها أنها تسبب العدوى، ولكن المفيد فيها أن بإمكانك أن ترى كيف تتطور. ضع مضادات حيوية في طبق بتري مع كمية كافية من البكتيريا، وبعد عدة أيام ستجد أن جرثوماً واحداً هو الجرثوم الذي قاوم تأثيرات الدواء، يعيد بناء المزرعة البكتيرية من جديد داخل الطبق. إن ما حدث هو الاصطفاء الطبيعي بشكل عملي.
والحقيقة هي أن كل كائن حي على هذه الأرض يتطور باستمرار، على الأقل إلى حد ما. ولكن الأنواع التي لا تعيش وتموت بسرعة كالبكتيريا، لا يمكن متابعة عملية تطورها بشكل عملي.
وقد أظهرت ذلك دراسة وراثية شاملة نشرت في مجلة بلوس بيولوجي أوائل سبتمبر 2017. فقد بحث العلماء في الحمض النووي عند 215 ألف شخص، وتتبعوا 8 ملايين طفرة لمعرفة التغيرات الجينية التي تحدث بشكل متكرر. ووجدوا أن عدداً من الجينات -أحد المتغيرات الجينية التي تهيئك لمرض ألزهايمر، على سبيل المثال- تصبح غير شائعة عند المسنين، حتى وإن كانت الجينات لا يبدو أنها تؤثر مباشرة على الإنجاب. وإذا منعتك إحدى الطفرات من الإنجاب، فإن مثل هذا التغير الوراثي سيكون من الصعب أن يجد له مكاناً في الأشخاص الأكبر سناً. وبما أن مرضى ألزهايمر لا تظهر الأعراض عليهم إلى ما بعد سنوات الإنجاب، فإن الطفرة لا يجب أن تتعرض لاصطفاء مضاد. وبشكل مشابه، فإن مجموعات من الجينات التي تهيئ للإصابة بالربو، ومعدل الكوليسترول العالي، ومؤشر كتلة الجسم الكبير، ومرض الشريان التاجي يبدو أنها أصبحت أقل شيوعاً.
ويعتقد مؤلفو الدراسة أن هذا الأمر يعود إلى أن تلك الاستعدادات تؤثر بطريقة أو بأخرى على احتمال إنجاب أطفال في وقت مبكر. وستحتاج إلى عدد كبير من الأشخاص للكشف عن مثل هذا التأثير. ولذلك فحتى هذه الدراسة الضخمة لا تستطيع الإجابة على هذا السؤال. ومن المحتمل أيضاً أن ما يسمى "فرضية الجدة"-والتي تقول بأن الحياة لمدة طويلة حتى الوصول إلى العناية بأحفادك يزيد من فرص بقائهم، وبالتالي يزيد من احتمال عبور جيناتك- لها دور في ذلك أيضاً. وإذا كانت فرضية الجدة تؤثر على تطور النوع البشري، فمن المنطقي أن تصبح الجينات المسببة للمرض في وقت متأخر من الحياة أقل شيوعاً مع مرور الزمن.
ويشكل هذا كله دليلاً قوياً على أننا نواصل التطور كنوع، وأنه من السهل أن نعرف السبب في أننا لا نلاحظ حدوثه. فالتطور لا يبدو وكأنه جيل يضم مجموعة من البشر، ولكنه يبدو مشابهاً للانخفاض الطفيف في حدوث الطفرات التي تؤدي إلى الإصابة بمرض ألزهايمر. فالعملية تحدث ببطء.
يجب علينا جميعاً أن يكون لدينا حساسية للاكتوز
وحتى ترى آثار التطور، عليك أن تبحث عن السمات الشائعة عند البشر، والعودة بالزمن إلى الوراء لترى كيف حدثت بهذه الطريقة. وتعتبر القدرة على شرب الحليب حالة نموذجية لذلك.
فمعظم البشر لا يجب أن يكونوا قادرين على شرب الحليب بعد سن الطفولة. ولا يستطيع معظم البالغين اليوم هضمه. وعندما كنا أطفالاً صغاراً، كان يعمل الجين الذي يرمّز الأنزيم الذي يدعى لاكتاز، وبالتالي سيقوم اللاكتاز بهضم اللاكتوز (أحد أهم مكونات الحليب). ومع تقدمنا في السن، يفترض أن الجين المسؤول عن اللاكتاز يتوقف عن العمل. ولكن قبل بضعة آلاف من السنين، أصبحت القدرة على شرب الحليب دون الإصابة بالمرض ميزة في بعض المناطق من العالم. ونحن لسنا متأكدين من السبب، على الرغم من أن الأمر له علاقة على الأرجح بقيمته الغذائية وتوفره في المزارع. ويشير أحد الأدلة إلى أن الأوروبيين صنعوا الجبنة قبل حوالي أربعة آلاف عام من تطور قدرتهم على هضم اللاكتوز بشكل صحيح. بينما اكتسب بعض الأفراد المحظوظين طفرة في الجين المسؤول عن اللاكتاز سمحت له باستمرار العمل حتى بعد سن الطفولة. ومكّنهم هذا من الاعتماد بشكل كبير على مشتقات الحليب طيلة حياتهم. وأظهر هؤلاء الأشخاص كفاءة عالية في الحياة وإنجاب الأطفال، وكذلك ذريتهم الذين اكتسبوا منهم الطفرة ذاتها، وهكذا انتشر هذا التغير الوراثي.
الهولنديون يتمتعون بقامات طويلة
وهناك مثال أكثر حداثة: فالهولنديون طوال القامة بالفعل، وكذلك معظم الشعوب الإسكندنافية، ولكنها سمة أكثر وضوحاً عند الهولنديين. ويبلغ متوسط طول الرجل الهولندي 182 سنتيمتراً، وهو أعلى بـ 20 سنتيمتراً من الطول الطبيعي الذي كان سائداً قبل مائتي عام. ويزداد عملياً معدل طول الأفراد في كل بلد، لأن نوعية الغذاء تتحسن، ولكن الهولنديين يزداد طولهم بمعدلات أسرع بكثير. فالأميركيون، على سبيل المثال، زادت أطوالهم بمعدل 6.1 سنتيمترات خلال تلك الفترة. لماذا؟ لأن هذا ما تفضله الهولنديات.
فالرجال طوال القامة في هولندا لديهم أطفال أكثر من الرجال الأقصر، وبالتالي فهم ينجبون رجالاً أطول، وهم بدورهم يواصلون إنجاب أطفال أطول بشكل عام. وتملك الهولنديات متوسطات الطول فرصة أكبر للحصول على شريك من نظيراتهن من ذوات السيقان الطويلة، وبالتالي سيكون لديهن العدد الأكبر من الأطفال. إن كون المرأة متوسطة الطول يعني أن الكثير من الرجال أطول منها، وهو ما تفضله الهولنديات في شريكهن. أما المرأة طويلة القامة، فيصعب عليها إيجاد رجل يكون أطول منها. ولكن النساء ذوات القامة الطويلة عندما يرتبطن بشريك فإنهن ينجبن أطفالاً أكثر من الجميع، ولذلك فإن عادات التكاثر في هولندا تشجع على إنجاب أطفال عمالقة بشكل متزايد.
هذه الأمثلة واضحة جداً الآن، لأنها سمات نستطيع الاستدلال عليها بأعيننا (أو بأنوفنا كما في حالة الحساسية للاكتوز). ويوماً ما، قد نكون قادرين على العودة بالزمن إلى الوراء لنعرف بوضوح ما الذي حدث للجينات التي بدأت في التحول. والثابت الوحيد في الطبيعة هو التغيير. والجينات ستظل تتحول، وبعض تلك الطفرات ستكون مفيدة. ومع مرور الزمن، سيتغير كل شيء تقريباً. وكل ما علينا فعله هو الانتباه.