لا بدّ أنك قد سمعت بالشمبانزي «سارة»، أذكى شمبانزي في العالم، التي توفيت في 19 يوليو/ تموز هذ العام، قبل أيامٍ قليلة من بلوغها الستين عاماً من عمرها. قضت سارة معظم حياتها بوصفها موضوعاً بحثياً، ووفرت للعلماء نافذةً على طريقة تفكير أقرب الحيواناتِ بيولوجياً للإنسان، والمعروف باسم «هومو سيبيان».
تثير وفاة سارة سؤالاً يشغل بال الكثيرين: هل يمكننا حقاً معرفة ما تفكِّر به الحيوانات الأخرى؟
يقدِّم كاتب المقال «جاكوب بيك»، وبناءً على خلفيته بوصفه أستاذاً في الفلسفة المعرفية، جواباً لهذا السؤال: لا، لا تزال هناك حدودٌ لقدرتنا على إدراك ما تفكّر به الحيوانات الأخرى وفهمها.
طبيعة تفكير الحيوانات
لا شكّ في أن الحيوانات تفكّر بطريقةٍ ما؛ لأن سلوكها معقد للغاية، ولا يمكن للبشر افتراض العكس، ولكن يصعب علينا معرفة بماذا تفكِّر الحيوانات بدقّة؛ لأنها لا تستخدم لغتنا البشرية، وبالتالي هي غير مناسبةٍ للتعبير عن أفكارها.
كانت سارة تثير الحيرة لدى العلماء بذكائها منقطع النظير؛ فقد قامت في إحدى الدراسات الشهيرة، التي أجريت عام 1978، بحلّ اللغز المعروض أمامها، واختارت العنصر الصحيح لإكمال سلسلةٍ من العمليات. فقد عُرض عليها مقاطع فيديو لحل بعض المشاكل، وأعطيت صوراً مع كل مقطع فيديو يظهر في أحدها حل تلك المشكلة. المدهش أنها اختارت الصور الصحيحة التي تقدم الحلول للمشاكل المعروضة أمامها؛ فقد اختارت صورة العصا بدلاً من صورة المفتاح بوصفها حلاً للشخص الذي يكافح للوصول إلى ثمار الموز، واختارت صورة المفتاح عندما عُرض عليها شخصٌ يحاول الخروج من القفص بدلاً من صورة العصا.
توصّل الباحثون إلى استنتاجٍ مفاده أن سارة لديها «نظرية ذهنية» تتكامل مع مبادئ التفكير العقلي، والاعتقاد والمعرفة، إلا أن باحثين آخرين اعترضوا على نتائج الدراسة فور صدورها، وشككوا في أن نمط تفكيرنا البشري يمكن أن يوجد لدى سارة بالسوية نفسها. ورغم مئات الدراسات الأخرى التي أُجريت في العقود الماضية، لا يزال الخلاف طاغياً بشأن كيفية توصيف طريقة تفكير الشمبانزي.
وفي الحقيقة لم تعد صعوبة توصيف طريقة تفكير الحيوانات لعدم قدرتها على استخدام اللغة، فبعد أن لُقّنت سارة لغةً بدائية تحوّل اللغز إلى ما تعنيه كلماتها.
الكلمات والمعاني
لقد اتضح أن مشكلة إعطاء معانٍ للكلمات كان هوس الفلسفة في القرن العشرين؛ فقد كانت تلك المشكلة الشغل الشاغل لأحد أبرز فلاسفة النصف الثاني من القرن العشرين وأكثرهم تأثيراً «ويلارد فان أومران كوين»، الأستاذ بجامعة هارفارد، بالإضافة إلى أمورٍ أخرى طبعاً.
اشتُهر «كوين» بمشروعه الذي أطلق عليه اسم «الترجمة الجذرية» أو «Radical translation»، حول ما يتطلّبه الأمر لترجمة لغةٍ أجنبية إلى أخرى. خلص «كوين» إلى أنه سيكون هناك دوماً عدة ترجماتٍ جيدة على قدم المساواة، ولذلك لم نتمكن من توصيف معاني الكلمات في لغةٍ أخرى وننقلها إلى لغتنا مثلاً بشكلٍ دقيق. بمعنى أنّ الكلمات قد تحمل معانٍ متعددة عند نقلها إلى لغةٍ أخرى، إلا أن «كوين» أشار إلى أن «الترجمة الجذرية» مُقيّدة ببنية اللغة.
يعتقد «كوين» أن لغة الحيوانات لا علاقة لها مُطلقاً بأي لغةٍ بشرية. يستخدم هنا مثالاً من اللغة الألمانية للتوضيح؛ فلنفترض أن أحد المتحدثين بلغة أجنبية قال جملة: «Schnee ist Weiss» التي تعني أن «الثلج أبيض»، فيبتسم أصدقاؤه ويتفقان على أن الجملة صحيحة، لكن ذلك لا يعطي المعنى الدقيق المقصود للجملة في سياق الحديث لسوء الحظ، إذ إن هناك الكثير من المعاني والحقائق التي من الممكن أن تحملها الجملة في سياق اللغة والثقافة الألمانية والموقف مثلاً.
وذلك يعطينا نتيجة عامة مفادها أنه بقدرٍ ما نستطيع ترجمة كلماتِ لغةٍ أجنبيةٍ ما إلى كلماتٍ بلغةٍ أخرى، بقدر ما نكون قادرين على ترجمة جمل اللغات الأخرى إلى جملٍ تحمل معنى مشابهاً في لغتنا.
لنتخيل الآن لغة ذات بنية تختلف عن أي لغة بشرية، كيف يمكن ترجمتها؟ وإن كانت ترجمة الجمل تتطلب ترجمة الكلمات، فلن نتمكن من ترجمة جملها إلى كلماتنا؛ لأن كلماتها لا تتناسب مع كلماتنا، وبالتالي لن نعرف معنى الجملة حتى لو تمكنا من تجميع الكلمات، وهذا ينطبق على اللغة الحيوانية المعقدة.
قواعد غير معروفة
تشبه أفكار الحيوانات جمل أي لغةٍ غير مألوفة، وهي تتألف من أجزاءٍ تختلف بطريقة تركيبها تماماً عن الطريقة التي تتركب بها لغتنا، من خلال ربط الكلمات المترابطة التي تعطي جملةً لها معنى حين تجتمع معاً. لذلك لا توجد عناصر في أفكار الحيوانات تتطابق مع كلماتنا، وبالتالي لا توجد طريقة دقيقة لترجمة أفكارهم إلى جملنا.
يمكن أن يجعل القياس والمقارنة هذه الحجة أكثر تماسكاً
على سبيل المثال نسأل: ما الترجمة الصحيحة للموناليزا؟ قد يكون ردكم أن هذا السؤال غير منطقي؛ لأن الموناليزا تُشير إلى لوحة فنية، ولا يمكن ترجمة اللوحات إلى جمل. حسناً، وهذا هو بالضبط ما أعنيه. تتشكّل اللوحات من ألوان تُرسم على القماش، وليست من كلمات؛ لذا إن كان كوين محقاً في أن أي ترجمةٍ ملائمة تتطلب مطابقة الكلمات مع كلمات اللغة الأخرى، فلا يمكن أن نتوقع أن أحداً يستطيع ترجمة اللوحات إلى جمل.
لكن ألا يُمكن ترجمة كلمة «الموناليزا» حقاً؟ قد نحاول استخدام عدة كلمات لوصف اللوحة فنقول: «تُصوِّر اللوحة الجوكندا وهي تبتسم بخبثٍ، لكن المشكلة أن هناك العديد من الطرق الذكية لوصف اللوحة، والموناليزا إحداها. فإن أردنا تفسير ابتسامتها على وجه الدقَّة، فسنحتاج إلى تفاصيل أكثر.
قد نحاول تقسيم اللوحة إلى آلاف من البيكسلات الملونة، وإنشاء وصف دقيق مثل: «أحمر في الموقع 1، الأزرق في الموقع 2 ... إلخ»، ولكن هذا النهج يخلط بين نظريات النقل اللغوي والترجمة.
وعلى سبيل المقارنة يمكنني تقديم تعليمات؛ لإعادة عرض المحتوى على الصفحة الأولى من صحيفة «نيويورك تايمز توداي» عبر البحث عنها في المتصفح مثلاً «أولاً اضغط على المفتاح T، ثم المفتاح H ، ثم المفتاح E ،... إلخ»، لكن هذه التعليمات قد تعطي نتائج مختلفةً تماماً عن محتوى الصفحة التي أرغب في استعراضها. فالأمر يعتمد على الأزرار التي يجب الضغط عليها. فأنا أريد أن أتصفح الصفحة الأولى من الجريدة فقط، وليس موضوعاً حول عدم المساواة في الدخل، أو أحدث تغريدات ترامب، أو كيف تُؤمّن قبولاً لطفلك في إحدى رياض الأطفال الخاصة بالنخبة في مانهاتن، وبالمثل تُصَوّر الموناليزا امرأةً مبتسمة، وليس مجموعة من البيكسلات الملونة؛ لذا فإن الوصف المصغر المحدود لا يقدم ترجمة عقلانية وجيدة لأي شيء.
طبيعة التفكير
أعتقد في النهاية أن محاولة توصيف الفكر الحيواني مثل محاولة وصف لوحة الموناليزا. المقاربة هنا ممكنة، لكنها ليست دقيقة مُطلقاً.
وينبغي ألا يُؤخذ تشبيه الموناليزا حرفياً؛ فالفكرة ليست في تشبيه طريقة تفكير الحيوانات بطريقة ترجمة أو وصف لوحة الموناليزا؛ لأن الحيوانات ببساطة لا تفكر كما يُفكّر الإنسان حين يستخدم جُملاً للوصف أو للتفكير في شيءٍ ما. هذا يعني أن تلك الحيوانات، مثل سارة، التي تمكنت من تعلم لغةٍ بدائية بعد عناءٍ كبير، لم تفهم أبداً الجمل والصيغ الغنية التي يتقنها البشر، أو تلك التي يتقنها الأطفال في عمر 3 سنوات دون عناء.
وعلى الرغم من وجود أدلة دامغة على أن سارة وغيرها من الحيوانات تفكر بطريقةٍ ما، فإننا في موقف حرج يتمثل في عدم القدرة على تحديد ما يفكرون فيه بدقة؛ لأن لغتها وأفكارها تنتظم بشكلٍ يختلف جذرياً عن لغتنا نحن البشر.