لا شك أن مستويات الدقة التي بلغَتها تقنيات التعديل الوراثي مثل تقنية كريسبر، قد غيَّرَت تماماً من الحدود التي كنا نظن أن العلم سيتوقف عندها. وقد تجلَّى ذلك في حالة تعديل جينات توأمٍ صيني وهما في طور الأجنة، والتي جاءت بعض عواقبها مخالفة للتوقعات. وأصبح بيننا – للمرة الأولى في تاريخ البشرية – فتاتان تعيشان بجينات معدلة، وقادرتان نظرياً على توريث هذه الجينات لنسلهما!
وقد استجابت منظمة الصحة العالمية لذلك بتشكيل لجنة من الخبراء لوضع توصيات دولية بشأن حدود التلاعب المسموح بالجينات البشرية، في محاولة للوصول إلى ما يشبه الإجماع حول ما يمكن أن يُسمَح به وما لا يجب. لكن بعيداً عن البشر، نجد أن تجارب التعديل الوراثي قد قطعَت أشواطاً أبعد بكثير في الحيوانات والنباتات، وما زالت. فهل هناك معايير دولية صارمة تضع حدوداً واضحة لما يجب فعله وما لا يجب في التعديل الوراثي للحيوانات؟ الإجابة المختصرة هي "لا"، وفقاً لتصريح "لاريسا رُودِنكو" الباحثة بمركز التقنيات المُستجَدَّة التابع لمعهد ماساتشوسِتس للتقنية MIT، والتي عملَت لخمسة عشر عاماً كمستشارة لإدارة الغذاء والدواء الأمريكية في تخصصات التقنية الحيوية، ما يجعل منها خبيرة في التوصيات القومية والدولية فيما يتعلق بشئون الحيوان.
لا تخضع الحيوانات لتنظيمات دولية مماثلة للتنظيمات البشرية، حسبما تقول "رودنكو"، حيث توضِّح أن هناك أسباباً لذلك، منها أن التوصيات الحالية المتعلقة بالحيوانات لا تُركِّز إلا على الطرق التي يَستخدِم البشرُ بها الحيوانات لأغراض الغذاء أو البحث العلمي.
يتضمن ذلك ما يُعرَف بالدستور الغذائي، وهو مجموعة من المواصفات الدولية، والإرشادات، والممارسات التي اعتمدتها منظمات الأمم المتحدة المعنية مثل منظمة الأغذية والزراعة، ومنظمة الصحة العالمية. ويحتوي هذا الدستور على معلوماتٍ بشأن كيفية تقييم سلامة الأغذية التي يتطلب إنتاجها الاستعانة بكائنات معدلة وراثياً سواءً من الحيوانات أو النباتات أو الكائنات الدقيقة.
هناك أيضاً المعايير الدولية التي وضعَتها المنظمة العالمية لصحة الحيوان المعنية بالأمراض التي يمكن لكائناتٍ مثل الدجاج أو بعض الحيوانات اكتسابها ونقلها إلى البشر، لكن حسبما تشير "رودنكو"، فإن المنظمة العالمية لصحة الحيوان ليسَت لديها معايير تخص التعديل الوراثي للحيوانات.
المشكلة أن هناك الكثير من العوامل المعنوية حين نفكر في التوصيات الخاصة بالحيوانات؛ فالمملكة الحيوانية هائلة ومترامية الأطراف، والمساواة في معاملة أنوعها الحية هو أمرٌ مستحيل عملياً. فكِّر مثلاً في الجمعيات أو المؤسسات المُطالِبة بحماية القِرَدة أو القطط أو الكلاب من إجراء التجارب عليها، وأخبرني: هل سيتساوى الأمر عندما نسمع عن جمعية تُطالب بحقوق الديدان المُفلطحة؟
بالطبع لدينا أيضاً المشكلة المتعلقة بالتباين الكبير في مفاهيم حقوق الحيوان بين ثقافات العالم المختلفة، وبالرغم من ذلك، فالوصول إلى قواعد عامة يتفق عليها الجميع بشأن إجراء التجارب على الحيوانات قد يصبح مُمكناً. تقول "رودنكو": "المعايير البديهية التي تنطبق على البشر لا تنطبق دائماً على الحيوانات. لكنني أظن أن التوصُّل إلى معايير دولية مُتَّفَق عليها بشأن أعضاء رتبة الرئيسيات مثلاً ليس بالأمر المستحيل".
حتى الآن تختلف مُقاربات تَقنين التعديل الوراثي للحيوانات حول العالم، ووفقاً لـ"جيمز موراي" أستاذ علم الحيوان بجامعة كاليفورنيا ديفيز، فإن ما ينطبق على الحيوانات ينطبق بالضرورة على النباتات، وذلك في كافة تجارب التعديل الوراثي التي يجريها الباحثون على مدار العشرين عاماً الماضية.
هذا الاختلاف في التقنين بين دول العالم يؤدي إلى الكثير من المشكلات التجارية المتعلقة بتصدير واستيراد الأغذية التي يتضمن إنتاجها اللجوء إلى النباتات – أو الحيوانات أيضاً بطبيعة الحال – المُعدَّلة وراثياً. ففي الولايات المتحدة مثلاً تخضع الجينات الحيوانية المعدلة لرقابة إدارة الغذاء والدواء، بينما صارت الحيوانات المُعدَّلة أنفسها في أوروبا تُعامَل مُعاملة الأغذية المُعدَّلة وراثياً.
هذا الحذر البالغ متفهَّمٌ بالطبع، فصحة البشر هنا على المحك. على سبيل المثال، عمل فريق "موراي" البحثي على الماعز النوبية بهدف إنتاج بروتين بشري في ألبانها يُساعد في علاج الإسهال. هذه الماعز - التي لا تكاد تختلف في شيء عن مثيلاتها غير المعدلة وراثياً – يمكن أن تمد الكثير من العائلات في البلدان النامية بألبانٍ تُمثل الغذاء والدواء في الوقت ذاته، وهو ما سيقدِّم عوناً كبيراً للأطفال المصابين بأمراضٍ تسبب الإسهال الذي تعتبره منظمة الصحة العالمية السبب الثاني لوفاة الأطفال دون الخامسة حول العالم، والسبب الأول في أمراض سوء التغذية. وبالرغم من فائدة ماعز "موراي" وأهميتها على الأخص لقاطني البلدان النامية، إلا أنها في الأخير تُعتبر من الحيوانات المعدلة وراثياً التي تنتظر صدور أي آليات تُقنن وجودها. يقول "موراي": "لن يساعدنا توحيد المعايير وحدنا، وإنما سيساعد الجميع بلا استثناء".