يوم اللطف العالمي هو احتفال دولي ابتكرته المملكة المتحدة، يحل سنوياً في 13 من نوفمبر، ويستمر لمدة 24 ساعة ويتم تخصيصه لإسداء الخدمات إلى الآخرين والتركيز على أعمال الخير، إذ يتم تشجيع المواطنين على أداء بعض الأعمال اللطيفة مثل التبرع بالدم، أو تنظيف الميكروويف المشترك في العمل، أو التطوع في دار لرعاية المسنين.
وبالطبع، فحتى في غياب يوم كهذا، ينتشر اللطف والإيثار بين البشر والحيوانات على حد سواء. إذ يتبرع كثير من الناس للمؤسسات الخيرية ويشعرون بسعادة كبيرة كنتيجة مباشرة للقيام بذلك. وفي المملكة الحيوانية، تُظهر العديد من الأنواع الحيوانية اللطف عن طريق الامتناع عن ممارسة العنف عند تسوية الصراعات، وتتفق عوضاً عن ذلك على بعض الحلول غير المؤذية نسبياً. وتشمل الأمثلة التقليدية ذكور السرطان الكماني وهي تقاتل عبر جحورها بحذر دون سحق أجساد بعضها البعض بكماشاتها الضخمة، ومصارعة الثعابين الجرسية من دون عض بعضها البعض، وقرود البونوبو وهي تتطوع لمساعدة القرود الغريبة عنها.
هذه الأفعال اللطيفة يكون تأثيرها واضحاً على متلقيها، لكن لا تبدو دوافعها بالوضوح نفسه. وفي الواقع، يتناقض وجود صفات مثل اللطف والإيثار مع نظرية داروين للتطور، حيث أن الانتخاب الطبيعي الذي يعتمد عليه بقاء الكائنات هو في الأساس عملية تنافسية تهدف لبقاء الأكثر جدارة. ولقد وجد داروين بعض الأمثلة التي تتحدى بناء نظريته، مثل السلوك الإيثاري للنمل العقيم، والذي يحمي مستعمراته من الحيوانات المفترسة الخطرة، مفضلاً حماية الآخرين على حماية نوعه وتكاثره.
إذن كيف تمكن السلوك اللطيف من التطور، ولماذا لم يتم القضاء عليه عن طريق الانتخاب الطبيعي؟ هذه الأسئلة واجهت العديد من الباحثين على مر السنوات، وفيما يلي أهم الأفكار التي طرحت في هذا السياق.
تفسير السلوك اللطيف
حاولت المناهج المبكرة، منذ ظهور نظرية التطور وحتى الستينيات، تفسير تطور سلوك اللطف من خلال افتراض أن الأفراد يتصرفون بشكل تعاوني لصالح مجموعاتهم أو أنواعهم، بغض النظر عن التضحيات الشخصية. وكانت "نظرية اختيار المجموعة" group selection هي التفسير الوحيد الذي استمر لعدة عقود، والتي ينظر إليها الآن بشيء من الشك. فكيف أمكن للسكان المتعاونين - الذين يُزعم بقاؤهم على قيد الحياة بشكل أفضل من السكان المتنافسين - أن يتطوروا في المقام الأول؟
طرح ريتشارد دوكينز جزءاً من الإجابة على هذا التساؤل، من خلال نظريته المعروفة باسم "الجين الأناني"، والتي يحمل أحد أشهر مؤلفاته اسمها، أو ما يطلق عليه "الأهلية الشاملة" inclusive fitness، فيكون من مصلحة الفرد أن يكون لطيفاً مع أقاربه ومن يتشارك معهم في نفس المحتوى الجيني، حتى يفضله الانتخاب الطبيعي، فمساعدة أحد الأقارب هي وسيلة لتمرير نسخ من الجينات الخاصة بنا، وهي تفيد الشخص المساعِد بمقدار القرابة التي تربطه بالشخص المتلقي.
لكن من جديد، يبرز سؤال آخر، فما سبق لا يفسر لماذا يكون الفرد لطيفاً مع الغرباء ومن لا يشاركهم نفس المحتوى الجيني؟ لذلك، فُسر الأمر من خلال نظرية "الإيثار المتبادل" reciprocal altruism والتي تتضمن فكرة "أنا سأحك ظهرك إذا كنت ستحك ظهري" كاستراتيجية تضمن الفوز للجانبين. فإذا تبادل اثنان من الأفراد غير الأقارب التصرفات اللطيفة، فإنهما يؤسسان بذلك علاقة من التعاون المتكرر الذي يستفيد منه كلاهما. وفي الواقع، ربما تطورت بعض المشاعر الاجتماعية مثل الشعور الذنب والامتنان والتعاطف على وجه التحديد للكشف عن الخداع وتجنب الغش في هذا النظام، وبالتالي تعزيز علاقات المعاملة بالمثل، وهو الأمر الحاسم جداً في تطور الإنسان.
ماذا عن الغرباء؟
ولا تفسر نظرية "الإيثار المتبادل" لماذا قد يتصرف الإنسان بلطف مع شخص غريب ربما لن يقابله مرة أخرى؟ في مثل هذه التفاعلات التي تتم لمرة واحدة، يتبادل الناس الإيثار فيما بينهم بشكل غير مباشر، وهو ما يحدث حين نتعامل بلطف مع الآخرين بعد أن نلاحظ أنهم كانوا لطفاءً مع غيرهم. وتشير الأدلة الواقعية إلى أن الناس هم أكثر ميلاً لمساعدة الغرباء إذا شاهدوهم وهم يتعاملون بلطف. وبالتالي، يحاول كل فرد أن يصنع لنفسه سمعة طيبة، وينميها من خلال تصرفاته الكريمة مع الآخرين، سواء كان يعرفهم أم لا. ومن شأن هذه السمعة أن تؤثر على معاملة الآخرين معه، وهو ما سيجلب له فوائد على المدى الطويل.
لكن ماذا عن التصرف بلطف في غياب الآخرين؟ في هذه الحالة، اقترح العلماء نظرية "العقاب الإيثاري" altruistic punishment. وتنص هذه النظرية على أن بعض الناس لديهم غريزة ثابتة تجعلهم يريدون معاقبة الناس البغيضين أو الأنانيين من خلال فضحهم أو انتقادهم أو نبذهم أو مواجهتهم بشكل مباشر. وتعدّ هذه العقوبة "إيثارية" لأن الشخص الذي يقدمها يخدم المجتمع بشكل عام، ويضحي في سبيل ذلك بوقته وجهده وخطر انتقام من أبلغ عنه. وقد تم رصد أدلة على وجود العقاب الإيثاري عبر مجموعة واسعة من السكان والثقافات. وبالتالي، فإن خطر المعاناة من العقاب الإيثاري هو بمثابة ضغط اجتماعي على الفرد للتصرف بشكل حسن في غياب من يراقبه.
وتُظهر هذه النظريات مجتمعة بأن اللطف لا يتعارض بالضرورة مع عملية داروين التنافسية للانتخاب الطبيعي. فاللطف هو أمر منطقي، لكن هل منطقيته تقوّض جاذبيته العفوية؟ وهل اللطف هو صورة متنكرة من الأنانية؟ وهل الإيثار موجود فعلاً؟
وبينما قد يحتدم النقاش حول هذه التساؤلات لما تحمله من نواح فلسفية، يجب أن نتذكر أن التصرف بلطف، غض النظر عن الدافع، لا يحسن الرفاه الاجتماعي الشامل فحسب، بل يجعل المؤثرين أيضاً يشعرون بالرضا، وهو ما يجب تذكره سنوياً في يوم اللطف العالمي.