قد لا تشعر الشخصيات الخيالية بأي شيء حقاً عندما تموت، لكن هذا لا يشمل معجبيها المخلصين. فمحبو «أفنجرز» تنتظرهم في صالات العرض – بلا حرق للأحداث – لحظات عصيبة، ومتابعو «جرايز أناتومي» لم يتجاوزوا بعد ما حدث لطبيبهم المفضل «ديريك شيبيرد» أو «مكدريمي»، أما النصيب الأكبر من المراثي فيحتفظ به متابعو مسلسل «لعبة العروش» الذين فقدوا منذ بداية هذه الملحمة الدامية – التي بدأت في ربيع 2011 – أكثر من 200 شخصية من أبطاله، ولايزال عدَّاد الموت مستمراً حتى هذه اللحظة في موسمه الأخير.
قد تبدو فكرة الحداد على أرواح من لا وجود لهم سخيفة في نظر المشاهدين «الأكثر عقلانية»، لكن هذا لا يعني أبداً أن مشاعر الحزن والفقد التي يختبرها بعض المشاهدين الآخرين ليس لها ما يبرِّرها.
يقول «آلان ولفيلت»، مؤسس مركز الفقد ومواصلة الحياة: «هل تعلم ما هو الحزن الأكبر والأصعب؟ إنه الحزن الذي تمرُّ به الآن، أيًّا كان». بينما لا توجد الكثير من الدراسات والأبحاث حول ردود الأفعال البشرية على موت الشخصيات الخيالية، إلا أن ولفيلت ورفاقه من مستشاري التعامل مع الحزن يتفقون على أن مشاعر الحزن والفقد في هذه الحالة طبيعية تماماً، بل شائعة جداً كذلك. فعلى الرغم من كونها علاقات من طرف واحد، لكنها تتسم بالعُمق الكافي للشعور بفداحة فقدها.
والأكثر إثارة للتأمل أن مشاعر الفقد هذه لا تقتصر على الشخصيات الخيالية، وإنما يختبر المشاهدون مشاعر مشابهة عند انتهاء مسلسل أو سلسلة أفلام (حتى تلك التي لا يموت فيها أحد). ففي دراسة نشرت عام 2013 في دورية أبحاث المستهلك، قام خبراء تسويق بدراسة ردود أفعال الناس عند انتهاء ما أطلق عليه «العلامات التجارية السَّردية»، وهي القصص والمسلسلات والأفلام التي يتابعها محبوها على مدار أعوام، وعقود أحياناً.
وجد الباحثون أن المشاهدين لا يتعلقون فقط بشخصيات مسلسلاتهم المفضلة، وإنما برفاق رحلة المشاهدة الحقيقيين كذلك. تقول «يفون» -إحدى متابعات المسلسل النيوزيلندي «قَدَرٌ فظيع - Outrageous Fortune»، بتلميحاته الشكسبيرية وحلقاته التي بلغ عددها 107- في كلمة لفريق الدراسة: «من الصعب جداً أن تتخلى عن أولئك الذين تهتم حقاً لأمرهم. يشبه الأمر أن يغيب عنك شخص تحبه، بالسفر أو بالموت». كما يصرّح «مارك» -من محبي مسلسل «سوبرانوز»- بشيءٍ من الألم: «شعرنا جميعاً بالحزن مع الكثير من الضياع. بعد انتهاء المسلسل لم أعد لديّ نفس الاهتمام المشترك أنا وأصدقائي. كَم أفتقد تلك الأيام، وكم أفتقدهم».
ومثل أي شعور آخر بالفقد، من المهم أن يتعامل الفاقد -ومن حوله أيضاً- مع حزنه بشيء من الجدية، وهذا هو أساس ما يطلق عليه ولفيلت مصطلح «واجبات الحزن». ولا يعد ذلك التعامل أمراً سهلاً –حسبما يقول ولفيلت- في ظل الثقافة الأميركية المعاصرة التي لا تحتفي كثيراً بالعديد من ضروب الحزن، ومشاعر الحداد التي تتجاوز فقدان أحد أعضاء الأسرة الصغيرة للمرء. كأن في هذه الحالات فقط يصبح من حق الإنسان أن يشعر بالفقد، وأن يساعده من حوله لتجاوز هذه المرحلة في أسرع وقت ممكن.
وبعد إرساء أسس واجبات الحزن، يأتي وقت استدعاء الذكريات بشكلٍ بنَّاء. يقول ولفيلت: «في هذه المرحلة، عليك أن تخطو قليلاً إلى الوراء قبل أن تتقدم خطوة للأمام». يَنصح حينئذٍ بالرجوع إلى مشاهدة الحلقات الأولى للمسلسل على يوتيوب، أو شرائط المونتاج والتسجيلات التوثيقية لصناع العمل ونجومه. ستساعدك هذه الخطوة في الاستعداد للخطوات التالية: بناء تصوّر لهويتك الذاتية دون وجود شخصياتك المفضلة في حياتك، ثم إدراك المعاني في أشياء أخرى جديدة، ثم أخيراً الحفاظ على صحبة جيدة تستطيع أن تلجأ إليها كلما داهمك شعور جارف بالفقد.
يقدم مجتمع محبي «هاري بوتر» مثالاً جيداً للمراحل المختلفة (صعوداً وهبوطاً) التي يمر بها مَن تنتابهم نوبات الافتقاد والحنين. فبالرغم من توقف سلسلة الكتب منذ اثني عشر عاماً تقريباً، يظل الشغف بها على الإنترنت من خلال تويتر وريديت والمواقع الأخرى التي تكتظ بمحبي هذا العالم الخيالي. ولهذا جانب إيجابي –على حد تعبير ولفيلت – يسمح للمعجبين بالتواصل مع من يفهمونهم ويُقدِّرون مشاعرهم. لكن هذا الإخلاص الشديد قد يصاحبه أحياناً إحباط أشد. فقد اشتهرت مؤلفة كتب السلسلة «جي كي رولينج» بولعٍ غير محمود بالرجوع المتكرر إلى أبطال كتبها وإعادتهم إلى المستقبل، والخوض في ماضيهم لإيجاد أي تفاصيل غفلَت عنها في الكتابة الأولى. ولهذا بدأ المعجبون –حتى أكثرهم إخلاصاً– في الشعور بالملل من هذه التحديثات التي لا يبدو أنها ستنتهي. هذه الحالة يعتبرها ولفيلت تعقيداً كبيراً وتكديراً لصفو العلاقة، وهو ما علَّقَت عليه صحيفة الجارديان باقتضاب قائلةً: «لقد حان الوقت فعلاً للوداع».
وهكذا إن كنت تشعر الآن –في موسم رحيل أبطال الخيال هذا– ببعض الضياع بعد فراق مسلسلك المفضل أو بطلك الأثير، فكن على ثقة أن ما تمر به هو أمر طبيعي تماماً من الناحية النفسية. أما إذا لم تكن تشعر بشيء من هذا، فبإمكانك أن تساعد غيرك من ضحايا هذا الشعور، وأضعف الإيمان أن تفكر قليلاً قبل أن تقول كلمة «مجرد»؛ تلك الكلمة التي تجرّد الكثير من كل ما يُضاف إليها. «لا تحزن، هذا مجرد حيوان أليف» و«هل تمزح؟ هذا مجرد مسلسل»، هي نماذج لعبارات تصادر على الآخرين حقوقهم في الشعور ببعض الحزن المستحَق. لندع الناس ترثي أبطالها، حتى إن لم يجدوهم خارج عقولهم وقلوبهم الباكية.