الحديث عن الوراثة ليس جديداً، فمنذ مئات السنين والبشر يعزون وجود التشابه بين أفراد الأجيال المختلفة، أو الإصابة بالأمراض وسط نفس العائلة للوراثة. لكن فهمنا لمفاهيم الوراثة هو الذي تطور بشكلٍ كبير خلال القرنين الماضيين.
خلال السنوات الأخيرة، أصبحت كلمة «جين» ومشتقاتها كلمة مألوفة للعامة في العالم الغربي والعربي. لكن هذه المعرفة العامة احتاجت إلى قرون من العمل والبحث من قبل العلماء، حتى يصلوا إلى المفاهيم التي نتعامل بها اليوم. في هذا المقال نستعرض تاريخ علم الوراثة منذ خطواته الأولى، حتى وصلنا إلى النتائج التى وصلنا إليها اليوم.
1866: مندل يكتشف قوانين الوراثة
لا يمكنك أن تتحدث عن تاريخ الوراثة دون أن تذكر «جريجور مندل»، الراهب النمساوي الذي وضع أول لبنة في بناء الوراثة الحديث. مندل، أبو الوراثة، كان أول من ألقى الضوء على طريقة انتقال الصفات عبر الأجيال. لكن المثير في قصة مندل أن اكتشافاته لم تحظ بالاهتمام إلا بعد أكثر من 3 عقود.
مندل كان يجري تجاربه على نبات البازلاء، ومن خلالها وضع قوانين الوراثة الخاصة به. بالطبع لم يتحدث مندل عن «الجينات»، بل وصف ما شاهده بكونه يحدث بسبب «عوامل الوراثة» التي تتسبب في ظهور هذه الصفات.
1900: قوانين مندل تلقى اهتماماً من الباحثين
بعد وفاة مندل بعدة سنوات، بدأ بعض العلماء في الاهتمام بقوانين الوراثة التي وضعها مندل. فأدرك قيمة ما فعله مندل كل من الهولندي «هوغو دي فريس»، والألماني «كارل إريك كورينس»، والنمساوي «إريك تششرماك فون سينزيغ»، وأعادوا تجاربه ليحصلوا على نفس النتائج. الطريف في هذا الاكتشاف هو أن كل منهم قد فعل هذا بشكلٍ مستقل عن الآخرين. ربما كان لسان حال مندل وهو يجري أبحاثه: يوماً ما ستعرفون قيمتي!
1902: الكروموسومات ونظرية الوراثة
أثناء عمله في معمله بكاليفورنيا، لاحظ «والتر ساتون» أن عدد الكروموسومات يقل للنصف أثناء تكوين البويضات والحيوانات المنوية (وهو ما يعرف بالانقسام الميوزي)، كما لاحظ أن الكروموسومات لها أشكال مميزة. وجد ساتون أن هناك علاقة وثيقة بين هذا التصرف من الكروموسومات، وبين قوانين مندل. نشر ساتون هذه المعلومات عام 1902، ليعلن أن الكروموسومات هي المسؤولة عن الوراثة.
1909: لقد ابتكرنا كلمة جديدة
قل معي: جين. في عام 1909، ابتكر العالم الدنماركي «فيلهلم يوهانسن» كلمة «جين»، من أجل وصف وحدات الوراثة في قوانين مندل. لم يكتف يوهانسن بذلك، بل قام بالتمييز بين الطراز الظاهري للفرد، وبين صفاته الجينية. الكلمة ذات الأصل اليوناني «جينوس»، والتي تعني «الميلاد»، قامت هي نفسها بولادة كلمات أخرى مثل «الجينوم».
1944: الـ «دي إن إيه» هو المسؤول عن تغيير الخواص
حتى هذا الوقت، لم يكن العلماء يعرفون تركيب المادة الوراثية بالتحديد. كان العلماء يعتقدون أن البروتين هو المسؤول عن هذه الوظيفة، لكن تبين لكل من «أوزوالد أفيري» و«كولين ماكلويد»، و«ماكلين مكارتي» أن الحمض النووي الريبوزي منزوع الأكسجين (ما يعرف اختصاراً «دي إن إيه») يمكنه أن يغير من خواص الخلايا. ومن خلال تجاربهم على البكتريا المسببة للالتهاب الرئوي -شكراً للبكتريا- تبين لهم أن «دي إن إيه» يمكنه أن يحدث تغييراً دائماً ووراثياً في الخلايا.
1950: الـ «دي إن إيه» هو سر الحياة
خلال أبحاثهما علي الفيروسات التي تصيب البكتريا -شكراً للفيروسات-، تبين لـ«ألفريد هيرشي» و«مارتا تشيس» أن دي إن إيه الخاص بالفيروس؛ هو فقط ما يحتاجه الفيروس ليصيب خلية البكتريا. أخيراً أصبح لدينا دليل قوي على أن الجينات تتكون بشكل أساسي من «دي إن إيه». الدي إن إيه الذي لم يهتم به أحد من قبل؛ صار أهم عنصر في الخلية. قد تكون الحكمة المستفادة هنا هو أن من يتجاهلونك ويقللون من أهميتك، قد يهرعون إليك حين يعرفوا قيمتك!
1953: أخيراً عرفنا السر
أخيراً، تمكن «جيمس واطسن» و«فرانسيس كريك» من وصف تركيب اللولب المزدوج الذي يكوّن الـ «دي إن إيه». لم يكن واطسون وكريك وحدهما يعملان على فهم النموذج، فالسباق كان على أشده في هذا الوقت مع «لينوس بولينج»؛ الذي سبقهما لنشر ورقة بحثية يشرح فيها تركيب الحمض النووي. لكنه أخطأ في نقطة جوهرية، فقد اعتقد أن الـ«دي إن إيه» يتكون من لولب ثلاثي، وهو النموذج الذي تبين سريعاً أنه غير صحيح.
1955: لدينا معشر البشر 46 كروموسوماً فقط
قبل هذا التاريخ، ولمدة 30 عاماً، كان يعتقد أن لدينا نحن البشر 48 كروموسوم، لكن أكد «جو هين» من خلال العديد من التجارب، أن عددها 46 كروموسوماً فقط، وهو ما ثبت دقته وصحته مع تقدم التكنولوجيا فيما بعد.
1959: التعرف على سبب متلازمة داون
في هذا العام، تمكن البروفيسور «جيرومي ليجون» من التعرف على سبب حدوث متلازمة داون. تبين أن السبب هو وجود 3 نسخ من الكروموسوم رقم 21، بدلاً من نسختين فقط، وهو ما يؤثر على نمو الجسد والمخ.
1975 - 1977: الآن يمكننا قراءة «دي إن إيه»
كما هو معروف، فحروف الـ«دي إن إيه» التي تكوّن الكروموسومات هي 4 أحرف، تكوّن الجزء الداخلي من اللولب المزدوج (A,T,C,G). بين هذين العامين، تمكن «فريد سانجر» وفريقه من ابتكار طريقة سهلة وعملية، من أجل قراءة تتابع الحروف في الـ«دي إن إيه»، وهي الطريقة التي ما زالت متبعة حتى اليوم.
1983: لنصنع ملايين النسخ
في هذا العام، تمكن «كاري موليس» من اختراع تقنية تفاعل سلسلة البوليميريز (PCR)، والتي مكنت الباحثين من مضاعفة كمية الحمض النووي الذي يتم استخراجه من الخلايا. مثلت هذه التقنية قفزة كبيرة في مجال أبحاث الجينات. وباستخدام هذه التقنية، يمكن تصنيع ملايين النسخ من أجزاء الـ«دي إن إيه» المختلفة.
1990 - 2003: لنقرأ حروف كتاب الخلق
كان يهدف هذا المشروع الطموح، مشروع الجينيوم البشري، إلى قراءة أكثر من 3 مليار حرف، تمثل حروف الـ «دي إن إيه» داخل الخلايا البشرية. كما كان يهدف لدراسة الجوانب الأخلاقية والقانونية والاجتماعية للأبحاث الجينية. في عام 2000، أعلن الرئيس الأميركي «بيل كلينتون» أن «مسودة العمل» الخاصة بالجينوم قد اكتملت، حيث احتوت على 90% من محتوى الجينوم البشري. بعدها، وفي عام 2003 تم إعلان الانتهاء من المشروع بالكامل.
2010: لنصنع الـ«دي إن إيه» في المعمل
في عام 2010، تمكن «كريج فنتر» وفريقه من تصنيع جزيء كبير من الـ «دي إن إيه»، يحتوي على الجينوم الخاص بنوع من البكتريا تسمى «الميكوبلازما». تم وضع هذا الجينوم في خلية بكتريا بعد إزالة الجينوم الخاص بها، وتمكنت البكتريا الهجينة من الحياة.
2016: لنصنع الـ «دي إن إيه» في المعمل، لكن بشكلٍ أكثر دقة
في هذا العام، تمكن «فنتر» نفسه وفريقه من تصنيع جينوم يحتوي على أقل عدد من الجينات اللازمة للحياة. وباستخدام الميكوبلازما أيضاً؛ نجح الباحثون في إزالة كل الجينات غير الضرورية، وبقوا فقط على أقل عدد ممكن من الجينات التي مكنت الكائن من البقاء حياً.
ختاماً، كان هذا تاريخاً موجزاً لما مر به علم الوراثة من أبحاث ودراسات عبر التاريخ، فهل كنت تعرف تفاصيل هذه الرحلة؟