بعد أن تنطلق مركبة فضائية من سطح الأرض، فهي تخرج في النهاية من المجال الجوي للأرض وتدخل الفضاء الخارجي. ولكن الموقع الدقيق للحد بين الغلاف الجوي للأرض والفضاء الخارجي ما يزال موضع جدل في المجتمع العلمي.
يَعتبر العديد من الخبراء أن ما يدعى بخط كارمان هو حافة الفضاء، والذي يُعرَّف بواسطته الحدُّ بين الغلاف الجوي للأرض والفضاء الخارجي على أنه الارتفاع الذي لا تستطيع الطائرات التقليدية تجاوزه. يبعد هذا الحد عن سطح الأرض مسافة تبلغ نحو 100 كيلومتر.
لهذا الرقم العديد من الاستخدامات العملية، ولكن بعض العلماء يشككون في دقته العلمية. يُعتبر تحديد قيمة لارتفاع حافة الفضاء عن سطح الأرض عملية بعيدة كل البعد عن البساطة.
يقول عالم الفيزياء الفلكية في مركز الفيزياء الفلكية التابع لمرصد سميثسونيان للفيزياء الفلكية ومرصد كلية هارفارد، جوناثان ماكدويل (Jonathan McDowell): "في العلم، الحدود التي نرسمها لا توجد في الطبيعة كما نتخيلها"، ويضيف: "مواضع الحدود هي المواضع التي تتغير فيها كمية ما بسرعة كبيرة في مسافة قصيرة. وينطبق هذا الكلام على حافة الغلاف الجوي. لكن اختيارنا للأماكن التي نعتبر أنها تنتمي إلى الفضاء وتلك التي تنتمي إلى الأرض هو قرار بشري لا تفرضه قوانين الفيزياء".
اقرأ أيضاً: ما هي رائحة الفضاء؟
تتعدى الآثار المترتبة على تحديد المكان الذي ينتهي فيه الغلاف الجوي ويبدأ فيه الفضاء الخارجي ما إذا كان بإمكاننا منح أوسمة رواد الفضاء للأشخاص الذين يذهبون في رحلات الطيران. عادة ما يتم تنظيم الحركة الجوية على المستوى الوطني؛ إذ تتحكم الدول المختلفة بالمجال الجوي فوق أراضيها. على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي الطيران على ارتفاعات أخفض من اللازم إلى نشوب نزاعات دولية عن غير قصد.
لكن وفقاً لماكدويل، "فإن الفضاء حيز عام بطبيعته". يتم تطبيق معاهدات دولية مختلفة عندما يتعلق الأمر بالفضاء. مع تمكّن المزيد من الدول من إطلاق الأقمار الاصطناعية، وتطوير شركات الطيران التجارية لقطاع السياحة الفضائية دون المداري، فإن تحديد الحد بين المجال الجوي الأرضي والفضاء الخارجي يزداد أهمية.
الأسس الفيزيائية لخط كارمان
يعتمد تعريف خط كارمان على قوانين الفيزياء من ناحية أنه يصف كيف تؤثّر خصائص الغلاف الجوي الأرضي على ارتفاعات مختلفة في قدرة الطائرات على الطيران. تتمكن الطائرات من التحليق في الهواء نتيجة قوة الرفع المطبقة على أجنحتها بسبب الهواء الكثيف تحتها. ولكن كلما ازداد الارتفاع، تقل كثافة الهواء. وعلى ارتفاع معين، يصبح الهواء منخفض الكثافة لدرجة أنه لن يولد قوة رفع كافية، ما سيمنع الطائرات التقليدية من الطيران. ستحتاج أي مركبة طائرة إلى استخدام أنظمة الدفع (مثل الصواريخ) حتى تتمكن من التحليق على هذه الارتفاعات. والحد بين المنطقتين هو خط كارمان.
سمي هذا الخط بهذا الاسم نسبة للمهندس وعالم الفيزياء ثيودور فون كارمان (Theodore von Kármán)، والذي ولد في هنغاريا عام 1881. أصبح فون كارمان خبيراً بارزاً في مجال الصواريخ خلال الحرب العالمية الثانية، وشارك في تأسيس مختبر الدفع النفاث الأميركي. يعتبر فون كارمان العالم الأول الذي حسب الارتفاع الذي يجب استخدام أنظمة الدفع للتحليق عند تجاوزه.
اقرأ أيضاً: هل للفضاء الخارجي نهاية أم أنه يستمر للأبد؟
وفقاً لحسابات فون كارمان الأولى، بلغ ارتفاع الحد بين الغلاف الجوي والفضاء 80 كيلومتراً عن سطح البحر. أما اليوم، فيُعرّف خط كارمان بأنه ارتفاع يبلغ نحو 100 كيلومتر. في الواقع، تستخدم الوكالة المسؤولة عن المعايير والسجلات في الجو والفضاء، وهي الاتحاد الدولي للطيران (Fédération Aéronautique Internationale)، هذا الرقم لتحديد بداية الفضاء.
يقول ماكدويل إن سبب استخدام هذا العدد الصحيح البالغ 100 كيلومتر يتمثّل في أن تحديد الحد بين الغلاف الجوي والفضاء بدقة صعب نظراً للتغيرات في الغلاف الجوي.
مع ذلك، ماكدويل ليس مقتنعاً بأن هذا هو السبب الحقيقي. لذلك، قام بمراجعة تاريخ خط كارمان والحسابات الخاصة به في ورقة بحثية نُشرت عام 2018 في مجلة أكتا أسترونوتيكا (Acta Astronautica). وجد ماكدويل أن حسابات فون كارمان الأصلية كانت أكثر دقة مما اعتقد العلماء سابقاً، وأنه مع تقدّم نماذج الغلاف الجوي خلال العقود الأخيرة، من المرجح أن يبلغ التباين بين الحسابات الأصلية والحديثة بضع كيلومترات فقط.
هل خط كارمان هو حافة الفضاء الوحيدة المحتملة؟
وفقاً لماكدويل، اقترح بعض العلماء خصائص أخرى يمكن استخدامها لتعريف الحد بين الأرض والفضاء، مثل المنطقة من مدار الأرض التي تتحطّم الأقمار الاصطناعية فيها عند عودتها للأرض. يقول ماكدويل: "اتضح أن ارتفاع هذه المنطقة يتراوح بين 80 و100 كيلومتر".
يعتمد العديد من الوكالات الأميركية، ومن ضمنها إدارة الطيران الفيدرالية، الحد البالغ 80 كيلومتراً. في الواقع، تمنح إدارة الطيران الفيدرالية وسلاح الجو الأميركي الأشخاص الذي يطيرون فوق هذا الارتفاع أوسمة رواد الفضاء. (مع ذلك، لا يتم منح هذه الأوسمة لجميع المسافرين في الرحلات التجارية؛ إذ أضافت إدارة الطيران الفيدرالية في عام 2021 بعض المعايير التي تتعلق بإسهامات المسافرين في المهمات الفضائية التجارية).
يتّبع مركز إدارة المهمات في وكالة ناسا نهجاً مختلفاً. بدلاً من التركيز على قوة الرفع الديناميكية الهوائية، تُعرّف وكالة ناسا الحد بين الأرض والفضاء على أنه الارتفاع الذي تصبح فيه مقاومة الهواء ملحوظة، والذي يبلغ نحو 129 كيلومتراً.
يشير ماكدويل إلى وجود حدود أخرى يمكن اعتبارها حواف للفضاء. يحمل أحد هذه الحدود اسم حد أرمسترونغ نسبة للطبيب الأميركي المختص في طب الفضاء الجوي، هاري أرمسترونغ (Harry G. Armstrong). هذا الحد هو الارتفاع الذي يغلي فيه دم البشر إذا لم تتم حمايتهم من انخفاض الضغط الجوي باستخدام بدلات الفضاء، وهو يتراوح بين 17 و19 كيلومتراً عن سطح البحر.
اقرأ أيضاً: أين تبدأ حافة الفضاء الخارجي؟
يقول ماكدويل: "يمكننا التلاعب بالمعايير بالطريقة التي تناسبنا".
يضيف ماكدويل قائلاً إن أحد التعريفات الأخرى هو تعريف سخيف نوعاً ما، ويحمل اسم خط رايبلي، والذي يقع في المنطقة التي لا يتمكن البشر من سماع الأصوات فيها. يقول ماكدويل إن "الحسابات التقريبية" لهذا الحد بيّنت أن ارتفاعه يبلغ بضع المئات من الكيلومترات، ويضيف: "لكن هذه الحسابات يمكن أن تكون خاطئة".
أين يقع الحد بين الفضاء والكواكب الأخرى؟
وفقاً لماكدويل، يمكن تطبيق السؤال "أين ينتهي الكوكب ويبدأ الفضاء" على الكواكب الأخرى غير الأرض. يشير ماكدويل إلى إمكانية تعريف خطوط مشابهة لخط كارمان في الكواكب الأخرى مثل المريخ، وذلك لأنه يمتلك غلافاً جوياً أيضاً (وإن كان أرق بكثير من الغلاف الجوي الأرضي). لكن القمر لا يمتلك غلافاً جوياً، فهل يعني ذلك أنه لا يوجد حد بينه وبين الفضاء؟ أم أن هناك نوعاً آخر من الحدود التي يجب أخذها بعين الاعتبار، كالحدود الثقالية على سبيل المثال؟
يقول ماكدويل: "في المستقبل، إذا تمكنا من بناء مدينة على القمر وانطلقنا منها إلى مدار حول القمر، على أي ارتفاع يمكننا أن نعتبر أننا انتقلنا من المجال الجوي للقمر إلى الفضاء العميق؟"، ويضيف: "ما هو الفرق عندها بين رحلات الطيران المحلية، أو رياضي قمريّ يقفز مسافة كبيرة، والرحلات الفضائية؟".
اقرأ أيضاً: هل هناك كواكب أخرى خارج النظام الشمسي؟
وفقاً لماكدويل، على الرغم من وجود أسباب عملية ولوجستية لتعريف هذه الحدود في المناطق التي سيسافر إليها البشر في المستقبل، هناك سبب آخر لصياغة تعريفات دقيقة.
يقول ماكدويل: "تساعدنا التعريفات على التفكير في الأجسام التي ندرسها"، ويضيف: "إنها تساعدنا إذاً على صياغة أسئلتنا بطريقة مختلفة. هذه المفاهيم تتطور باستمرار. ومع تعمّق فهمنا لتصنيف مختلف المفاهيم، ستنشأ أسئلة جديدة يمكنا طرحها حول هذه المفاهيم".