وفقاً لأستاذ علم الاجتماع في جامعة مينيسوتا، راسل فانك، فإن العلوم الحديثة ظاهرة حديثة نسبياً وتعود إلى أوائل القرن العشرين، ويشير إلى أن الفكر العلمي تقدم بشكل كبير خلال منتصف القرن العشرين. لقد حصلت ماري كوري على جائزة نوبل الأولى في عام 1903 عن عملها في النشاط الإشعاعي، وتعود نظرية النسبية لآينشتاين إلى الفترة بين عامي 1905 و1915، ونشر واتسون وكريك بحثهما حول بنية الحمض النووي عام 1953. ولكن، على الرغم من التقدم الهائل في العلوم على مدى العقود الستة الماضية، إلا أن الاكتشافات العلمية الثورية التي تغير فهمنا للعالم ظلت راكدة.
انخفاض في معدل الاكتشافات الكبرى في جميع المجالات
نشر علماء اجتماع من جامعتي مينيسوتا وأريزونا ورقة بحثية في مجلة نيتشر في 4 يناير/كانون الثاني يشيرون فيها إلى أن الاكتشافات العلمية التي وصفوها بأنها "ثورية"، لم تواكب تقدم العلم منذ عام 1945، حيث يشيرون إلى أن معدل الاكتشافات الكبرى انخفض في جميع المجالات التي نظروا فيها، بما فيها العلوم الاجتماعية والفيزيائية والكيميائية والطب والتكنولوجيا.
وفقاً للباحث الرئيسي للورقة البحثية الجديدة، فانك، فإن مصطلح "ثورية" قد يشير إلى دلالات كثيرة، ويقول فانك إنها طريقة خاصة جداً لقياس الأبحاث تتناول قضايا مثل "هل تفتح هذه الأبحاث آفاقاً جديدة في العلم وتدفعه إلى الأمام؟" و"هل تبني على النتائج السابقة وتحسنها؟".
ما هو مؤشر سي دي؟
لقياس مدى "ثورية" الأبحاث، طور فانك ومعاونوه مقياساً أسموه مؤشر سي دي (CD) واستخدموه لتتبع الاقتباسات لحوالي 25 مليون ورقة بحثية منشورة. يقيس المؤشر تأثير ورقة بحثية ما عن طريق مقارنة اقتباساتها باقتباسات الأوراق البحثية التي تشير إليها في غضون 5 سنوات من نشرها، فإذا كانت الأوراق البحثية تستشهد إلى حد كبير بالمواد نفسها للورقة البحثية، يصنف الباحثون هذه الأبحاث على أنها "تدعيم للبحث"، وهو أمر يبرزه المؤشر في هذه الحالة برقم سالب. بالمقابل، إذا لم يستشهد الجيل اللاحق من الأوراق البحثية بنفس مصادر الورقة الأصلية، فإن المؤشر يعتبرها "ثورية"، ويعطي المؤشر في هذه الحالة رقماً موجباً.
لقد اقتصر البحث السابق في هذا الشأن على مجال واحد غالباً، ولكن هذه الورقة البحثية كانت موسعة وتناولت هذه القضية عبر علوم متنوعة مثل علم الفلك وعلم الحيوان.
اقرأ أيضاً: قد تصبح واحدةً من حالات المادة: ما هي بلورات الزمن؟
لا زيادة في الأوراق البحثية الثورية
تظهر الدراسة أنه على الرغم من أن عدد الأوراق البحثية المنشورة قد ازداد بشكل كبير بين عامي 1945 و2010، إلا أن عدد الأوراق البحثية الثورية لم تواكب هذه الزيادة ولم ترتفع. على سبيل المثال، في حين تم نشر نحو 16 ألف بحث طبي في عام 1945، نُشر أكثر من 510 آلاف بحث في عام 2010. خلال نفس الفترة، انخفض متوسط مؤشر سي دي (CD) للأبحاث الطبية من 0.21 إلى صفر تقريباً، ما يشير إلى تحول جذري نحو تدعيم الأبحاث.
ووفقاً للمؤشر أيضاً، كان الانخفاض أكثر حدة في العلوم الاجتماعية، حيث انخفض المؤشر من 0.51 إلى 0.04 خلال نفس الفترة، ولكن مؤشرات جميع مجالات العلوم انخفضت إلى الصفر تقريباً بحلول عام 2010. تشير الدراسة إلى أن هذا الانخفاض لا يرجع في الواقع إلى قلة الأبحاث الثورية المُنجزة -إذ كان عددها لكل عام متسقاً خلال الفترة الزمنية المدروسة- ولكن الكم الهائل من الأبحاث المصنفة على أنها "تدعيم للبحث" قلل من نسبة الأبحاث الثورية.
لماذا قلّت الأبحاث الثورية؟
يشير فانك إلى أنه من غير الواضح لماذا لم تؤدِّ زيادة الأوراق البحثية المنشورة منذ عام 1945 إلى زيادة النتائج الثورية. كان أحد التفسيرات المحتملة التي أخذها الفريق في الاعتبار هي أن الاكتشافات العلمية الأكثر وضوحاً، والتي وصفها الباحثون بـ "السهلة"، أصبحت نادرة بمرور الوقت، ما أدى إلى قلة الأبحاث الثورية. (على سبيل المثال، كان اكتشاف الجاذبية مهمة أسهل على إسحاق نيوتن مقارنة بالتحديات التي واجهها إنريكو فيرمي وفريقه في اختراع المفاعل النووي). ومع ذلك، يقول فانك إنه إذا كانت الاكتشافات السهلة تتلاشى تدريجياً، فإن ذلك لم يكن ليحدث بشكل متزامن في كل مجالات العلوم، ويعتقد أنه ما يزال هناك الكثير من هذه الاكتشافات السهلة في الانتظار.
يعتقد فانك أن انخفاض الأبحاث الثورية المنشورة يرجع إلى عاملين رئيسيين؛ البيئة الأكاديمية ونظام النشر، وليس إلى سبب واحد بسيط فقط.
أولاً، نظراً لتطور المجالات العلمية وتعقدها أكثر، يستغرق الباحثون الجدد وقتاً أطول لتعلم كل ما يحتاجون إليه للتوصل إلى اكتشافات مهمة. ويتفق أستاذ الفلسفة المتقاعد في جامعة كولومبيا وغير المشارك في الدراسة، فيليب كيتشر، مع هذا الرأي ويقول: "في بعض مجالات العلوم، لا يمكنك البدء بإجراء تجاربك الخاصة إلا بعد الحصول على البكالوريوس والدكتوراة، بل وبعد الحصول على بعض الخبرة البحثية في مرحلة ما بعد الدكتوراة".
اقرأ أيضاً: كيف يستطيع العلماء قياس المسافات بين النجوم والمجرات في الفضاء؟
بالإضافة إلى الحاجة إلى تعلّم المزيد، يشير فانك وكيتشر إلى أن السبب الثاني يتعلق بشكل كبير بنظام النشر الحالي. أجرى فانك أبحاثاً أخرى قدم من خلالها مقترحات لإعادة صياغة أنظمة المنح من أجل مكافحة ثقافة "النشر أو الفناء" (الضغط لنشر الأبحاث من أجل النجاح في المسار الأكاديمي) السائدة في العديد من المجالات. ويقول كيتشر إن على الباحثين النظر بجدية وعناية أكثر حول كيفية استخدامهم لوقتهم وتحديد أولويات أبحاثهم، ويضيف: "يتعرض بعض العلماء ومجموعاتهم في بعض المجالات إلى ضغوط لنشر الكثير من الأبحاث، والحل المثالي هو التركيز على إجراء الأبحاث النوعية والتفصيلية".
حتى إن كيتشر تمنى أن تكون نفس الدراسة المنشورة في مجلة نيتشر أكثر جودة وأقل اعتماداً على المقاييس الرقمية، حيث يقول إن فانك يقلل من أهمية الأبحاث الداعمة من خلال تحليل تراجع الاكتشافات الثورية، فكلاهما يسهمان في النتائج الثورية السابقة ويقودان لنتائج ثورية جديدة في المستقبل أيضاً. لقد قال إسحق نيوتن في رسالة له عام 1675 إن نجاحه "يقوم على أكتاف العمالقة الذين سبقوه"، بينما فضّل كيتشر القول "يقف العمالقة في بعض الأحيان على أهرام ضخمة من الأقزام" مشيراً بذلك إلى حقيقة أن أعظم الاكتشافات يمكن تحقيقها من خلال إسهامات العديد من الأبحاث الصغيرة.
على الرغم من وجهات نظرهم المتباينة حول تقدم العلم، يتفق كيتشر مع النتائج التي توصل إليها فانك وزملاؤه فيما يتعلق بالوضع الحالي للنشر. يقول كيتشر: "يُضطر الباحثون في بعض المجالات إلى إجراء أبحاث قد لا تؤدي إلى أي نتائج ملموسة أو تقدم للحفاظ على وظائفهم".
اقرأ أيضاً: بين الحِرف والمعرفة العلمية: هل نصبح علماء أفضل باتّباع الأساليب القديمة؟
في حين أن التأثير الذي اكتشفه فانك ليس بالضرورة مؤشراً على تدهور العلم، لأنه إذا كان على كل ورقة بحثية تقديم اكتشاف ثوري، فلن يتم تحقيق أي تقدم في الواقع. ويعرب فانك عن أمله في أن مجالات العلوم، والتي تقاوم التغيير بطبيعتها، قد تتقبل إعادة النظر ببعض منهجياتها: "من الممكن أن تبدو اكتشافات الغد مختلفة عن اكتشافات اليوم. ومع ذلك، ما يجب التركيز عليه في نهاية المطاف ليس الأبحاث أو براءات الاختراع، بل بالأحرى الأفكار، الشكل "الأنقى" من العلم".