ما الذي يخطر في بالك عند شم رائحة البنفسج؟ هل هي ذكرى لطيفة مع أحد أحبائك أم تستعيد ذكريات سيئة تهرب منها؟
الرائحة جزء من التجربة التي يستجيب لها البشر بشكل ما سواء بشكلٍ إيجابي أو سلبي، خاصة إذا كانت مرتبطة بحدث أو شخص ما. على سبيل المثال، هناك رائحة منعشة نعرفها جميعاً تصدر عن الأرض بعد المطر، وهي عبارة مادة تُسمى بـ "جوسمين" (Geosmin)، وهي منتج ثانوي تُفرزه كائنات دقيقة، يُطلق عليها "الفطريات الشعاعية" (Actinomycetes).
اقرأ أيضاً: لماذا تمتلك الأزهار روائحَ؟
لماذا ترتبط الروائح بالذكريات؟
عادةً ما نتأثر بالروائح، وقد اتضح أنّ حاسة الشم تؤثر على كيفية إدراكنا للعالم من حولنا، فعندما تشم رائحة يتم إرسال بعض الإشارات إلى الجهاز الحوفي، وهو جزء من الدماغ له علاقة بالاستجابة العاطفية والسلوكية والذاكرة، ما يجعلنا نتفاعل مع محفزات الرائحة بسرعة. فإذا كانت الرائحة جميلة نستمتع بها، وإذا لم تكن كذلك ننفر منها تلقائياً. وهذا يجعل للرائحة تأثيراً على سلوكنا وأفعالنا واختياراتنا وتوجهات عاطفتنا وذاكرتنا، فقد ترتبط الرائحة بذكرى ما.
منذ فجر التاريخ: كيف تأثرت الثقافة المصرية القديمة بالروائح؟
عام 1145 قبل الميلاد، تولى "رمسيس السادس" حكم مصر، وكان أول قرار اتخذه هو التخلص من الرائحة الكريهة المنبعثة من مستنقعات دلتا النيل، والتي كان مصدرها الأسماك والطيور. ما يعني أنّ الفراعنة كانوا يميزون الروائح ويصنفونها إلى رائحة ممتعة وأخرى كريهة وربما مألوفة أو مميزة لمكان ما، فقد استنشقوا جميع أنواع الروائح تقريباً ومنها: العرق والمرض وطهي اللحوم والبخور والأشجار والزهور.
كان لكل رائحة سبب ما يوجد في الطبيعة من حولهم، فعلى سبيل المثال، في القِدم اشتُهرت مصر بالطقس الحار، ما دفع الناس إلى استخدام الزيوت المعطرة والمراهم التي تعطيهم رائحة جميلة. وهذا يعني أنّ الروائح أثرت بشكل ما في ثقافة المصريين، فدفعتهم لصنع العطور والمراهم بتركيبات كيميائية مختلفة ومميزة، وبذلك أتقنوا حرفة جديدة وأصبح استخدام العطور والمراهم جزءاً من ثقافتهم.
اقرأ أيضاً: ناسا اهتدت إليه أولاً: عطر جديد يحمل «رائحة الفضاء» إليك
البحث عن الروائح المصرية
بعدما ربط العلماء الروائح بالثقافة، قرروا البحث والتعمق في البقايا الأحفورية للأدوات والزخارف التي استخدمها الفراعنة قديماً ومن ثمّ إعادة فحصها للكشف على المواد الكيميائية الموجودة فيها، ما يجعلهم أقرب إلى معرفة الروائح التي كان يستنشقها قدماء المصريين، وبالتالي اكتساب المزيد من المعلومات حول الثقافة المصرية القديمة، ما يعزز فهمنا لطبيعة شخصية الإنسان المصري القديم. وبالتالي، بدأ الباحثون البحث في الآثار المحفوظة في المتاحف والتدقيق في النصوص القديمة بحثاً عن وصفات العطور.
كيف استطاع الباحثون الكشف عن مكونات العطور التي استخدمها المصريون القدماء؟
تتيح التقنيات الجزيئية الحيوية الجديدة فرصة لمعرفة جزيئات المواد العطرية القديمة المحفوظة في أواني الطهي والحاويات، أو الحطام الموجود في حفر القمامة أو الجير الموجود على أسنان الإنسان وبقايا المومياوات. مثلاً، عند فحص مبخرة، يمكن معرفة نوع المادة التي تم حرقها والمادة الناتجة عن الاحتراق وهكذا.
نشرت مجموعة بحثية من معهد ماكس بلانك لعلوم تاريخ البشرية في جينيا بألمانيا دراسة في 28 مارس/آذار 2022 في دورية "نيتشر هيومن بيهيفيور" (Nature Human Behavior) تُشير لأهمية الروائح وحاسة الشم في تشكيل السلوك وطريقة الفهم لدى البشر، ما دفع المجموعة البحثية إلى إجراء تحقيق استقصائي في مدينة تيماء بالمملكة العربية السعودية، وكانت في الماضي تقع على طرق التجارة التي كانت تمر عبرها قوافل نقل اللبان ونبات المر، وهي عبارة عن راتنجات تُستخرج من الشجيرات والأشجار التي تنمو في شبه الجزيرة العربية وفي شمال شرق إفريقيا والهند. وكانت القوافل تتحرك بالسلع من جنوب شبه الجزيرة العربية إلى البحر الأبيض المتوسط قبل 2300 إلى 1900 عام مضى.
اهتم سكان تيماء في الماضي بشراء اللبان والمر واستخدامه، وهذا ما لاحظه الفريق البحثي عبر التحليلات الكيميائية والجزيئية للراتنجات، وكانوا يستخدمون مباخر مختلفة لكل نوع منهما، مثلاً:
- المباخر مكعبة الشكل: يُوضع فيها اللبان، وتم اكتشافها في أحد أحياء تيماء.
- المباخر مخروطية الشكل: وُضع فيها المر ووجدوها داخل القبور.
وفي مايو/أيار 2022، نُشرت دراسة أخرى في دورية "جورنال أوف آركيولوجيكال ساينس" (Journal of Archaeological Science)، أجرتها مجموعة بحثية من جامعة بيزا في إيطاليا. وخلالها درس الباحثون 46 قطعة من الأوعية والبرطمانات والأكواب التي عُثر عليها في مقبرة خع وزوجته مريت، وهما زوجان مصريان عاشا أثناء عصر الأسرة الثامنة عشرة، خلال الفترة الزمنية بين 1450 إلى 1400 قبل الميلاد. فحص الباحثون التركيب الكيميائي للغازات غير المرئية المنبعثة أثناء عملية تحلل النباتات العطرية والمواد الأخرى التي كانت موجودة في الأوعية. وكشفت التحليلات عن زيوت ودهون وشمع العسل وبعض الآثار المحتملة للأسماك المجففة والراتنج العطري ودقيق الشعير وغيرها، ووجدوا في 7 أوعية بعض المواد المكونة للعطور والمراهم المصرية.
النصوص القديمة: البحث عن عطر كليوباترا المفضل
كانت كليوباترا السابعة واحدة من سلالة البطالمة الذين حكموا عرش مصر أثناء القرن الأول قبل الميلاد، واهتمت كثيراً بالعطور. هناك العديد من الوثائق القديمة التي تحتوي على وصفات العطور، ولكن المكونات الدقيقة وطريقة التحضير ليست واضحة، وحاول بعض الباحثين ابتكار عطر مصري "مندسيان" باعتقاد أنه كان العطر المفضل لـ "كليوباترا" من خلال وصفات النصوص القديمة، واستخدموا زيت التمر ونبات المر والقرفة وراتنج الصنوبر. وصنع الباحثون العديد من أنواع العطور الأخرى التي كان يستخدمها المصريون القدماء في المعابد ولاستخدامات الحياة اليومية والتحنيط.
التميز بالرائحة
تُعبر الرائحة بشكل ما عن الحالة أو الموقع. على سبيل المثال:
- الأسرة الحاكمة: كانت لها عطور خاصة ومميزة تهيمن على العطور التي يستخدمها البلاط الملكي.
- المعابد: استُخدمت 10 أنواع من الزيوت اشتُهرت باسم الزيوت المقدسة، وكان لكل عطر طقس خاص.
اختلاف الأذواق
في 4 أبريل/نيسان 2022، نُشرت دراسة في دورية "كارنت بيولوجي" (Current Biology) أجرتها مجموعة بحثية بقيادة "أصيفة ماجد"، حيث أُحضر 225 مشاركاً من 9 ثقافات وعُرضت عليهم 10 روائح مع مراقبة استجابتهم لتلك الروائح، ولاحظوا اختلاف استجابتهم لبعض الروائح، وهذا يؤكد أنه على الرغم من اشتراك البشر في الأنظمة الحسية، إلا أنّ التجربة الحسية الفردية تختلف من فرد لآخر. وظهر ذلك عبر الدراسة، فقد اتضح أنّ الثقافة قد تؤثر بشكل ما على الاستجابة للرائحة، لكن التباين الفردي في الذوق كان 54 %.
اقرأ أيضاً: ما الذي تخبرنا به الروائح القديمة عن تاريخ الإنسان؟
مع ذلك، ما زالت آراء المصريين القدماء حول الرائحة غير واضحة، لكن الأكيد أنّ النسبة الأكبر منهم كانت مستاءة من الرائحة الكريهة المنبعثة من دلتا النيل. وعندما توّج رمسيس السادس على عرش مصر، تم تذكيره في ترنيمة لطيفة بأن يحافظ على قوة مصر ورائحتها المنعشة.