في صباح الخامس من ديسمبر عام 1952، حلّ برد قارس على مدينة لندن، فأُشعِلت المواقد في المنازل والمصانع وكل مكان، ثم بدأ الضباب يكتسح المدينة وسرعان ما تحوَّل لونه إلى البني المصفر، لقد اختلط الضباب مع آلاف الأطنان من السُخام الناتج عن المداخن. عاش سكان لندن في ذلك الجحيم الكبريتي لمدة 5 أيام، وكان كثيفاً لدرجة أن الشخص لا يرى أقدامه عند السير. ولم يكن مزعجاً فحسب، بل كان ساماً أيضاً، إذ لقي آلاف الأشخاص مصرعهم في أعقاب تلك الحادثة. واليوم، تتكرر تلك الحادثة في العديد من المدن مع بعض الاختلافات، فماذا تعرف عن الضباب الدخاني وأنواعه؟ وما هي الأضرار التي قد يسببها؟ وكيف يمكن مواجهته؟
ما هو الضباب الدخاني؟
يُسمى الضباب الدخاني عادةً بـ"الضبخان"، ومقابلها باللغة الإنجليزية كلمة "Smog" المشتقة من دمج كلمتي Smoke وFog. وعلى الرغم من أنه قد استُخدِم بداية لوصف الضباب الذي يحتوي على دخان أو سُخام (هباب الفحم)، فهو يُستخدَم اليوم بشكلٍ شائع لوصف سحابة كثيفة من الهواء الملوث التي تتشكل ضمن العديد من المدن، كنتيجة عن تفاعل ضوء الشمس مع الملوثات الصادرة عن عوادم السيارات وانبعاثات المصانع. غالباً ما يكون الضباب الدخاني ذا لون مصّفر أو يميل للسواد، ويسبب صعوبة في الرؤية والتنفس والعديد من المشكلات الصحية الأخرى التي قد تصل إلى الموت.
كيف يتشكل الضباب الدخاني؟
تختلف طريقة تشكُّل الضباب الدخاني باختلاف نوعه. وعلى الرغم من أن الضباب الدخاني ظاهرة ذات مصدر بشري، فهي تتأثر بالطقس والموقع الجغرافي إلى حدّ كبير، ولا يمكن أن تحدث إلا عندما تكون ظروف الطقس مواتية لها. وهذا يعني أنه وحتى يتجمع الضباب الدخاني فوق مكان ما لا بُدّ من وجود هواء ملوّث من جهة، وظروف جوية مناسبة تبقي هذا الهواء مهيمناً على المدينة من جهةٍ أخرى. والظروف التي تساهم في تشكل الضباب الدخاني هي:
- الرياح: كلما زادت سرعة الرياح قلّ احتمال حصول الضباب الدخاني، إذ يمكن للرياح أن توزّع الملوثات وتقلل تركيزها في مكان ما، وبالعكس كلما قلّت سرعة الرياح كان الطقس مواتياً أكثر لحصول الضباب الدخاني.
- الحرارة: على الرغم من أن سكون الرياح يُسهِّل حصول الضباب الدخاني، لكن ثمة ظاهرة مناخية تجعل الأمر أكثر سهولة وهي ظاهرة الانقلاب الحراري، وهي انقلاب درجة الحرارة في عمود الهواء بحيث تكون درجة الحرارة المنخفضة في الأسفل ودرجة الحرارة المرتفعة في الأعلى، ما يصعّب اختلاط الكتل الهوائية، فلا تتمكّن الملوثات من الانتقال إلى ارتفاع أعلى، وهو ما يبقيها محصورة بالقرب من سطح الأرض.
- الضغط الجوي: يرتبط ضغط الهواء المرتفع في منطقة ما أو ما يُسمى بالمرتفع الجوي بالطقس المستقر، حيث تتحرك الكتل الهوائية فيه بشكل أبطأ بكثير، ما يخلق ظروفاً مناسبة لتشكّل الضباب الدُخاني. من ناحية أخرى، تنتج عن الضغط المنخفض أو ما يُسمى بالمنخفض الجوي رطوبة أعلى وتحرُّك سريع للكتل الهوائية، وقد يؤدي إلى هطول المطر الذي يزيل التلوث من الغلاف الجوي.
ما هي أنواع الضباب الدخاني؟
بناءً على المكونات والخصائص، يمكن تمييز نوعين أساسيين من الضباب الدخاني، هما:
الضباب الدخاني الكبريتي
يتكون هذا النوع عادةً في المناطق الرطبة الباردة، ويُسمى أيضاً "الضباب الدخاني من نوع لندن" نسبة إلى الملوثات الغازية والصلبة مع الضباب الطبيعي الذي كان سائداً في لندن في أوائل القرن العشرين. بشكل عام، ينتج هذا الضباب الدخاني عن وجود أكاسيد الكبريت بتركيز عالٍ في الهواء والناتجة أساساً عن حرق الوقود الأحفوري وخاصة الفحم، ويتفاقم بسبب رطوبة الجو المرتفعة ودرجة الحرارة المنخفضة والتركيز العالي للجسيمات العالقة في الهواء.
الضباب الدخاني الكيميائي الضوئي
يُعرف أيضاً باسم "الضباب الدخاني من نوع لوس أنجلوس"، ويتشكل في المدن التي تحتوي على أعداد كبيرة من السيارات والمركبات وتتمتع بظروف جوية مستقرة ومشمسة، وخصوصاً المدن الواقعة في وادٍ تحيط به الجبال، ما يمنع الرياح من حمل الضباب بعيداً. لا يحتاج هذا النوع لدخان ولا لضباب ليحدث، وإنما يتشكل عندما تتفاعل أكاسيد النيتروجين بوجود ضوء الشمس مع واحد على الأقل من المركبات العضوية المتطايرة.
تنتج أكاسيد النتروجين عن عوادم السيارات ومحطات توليد الطاقة وانبعاثات المصانع، وتنتج المركبات العضوية المتطايرة عن البنزين والدهانات ومواد التنظيف. فعندما يضرب ضوء الشمس هذه المركبات الكيميائية، فإنها تتفاعل، وينتج عن تفاعلها غاز الأوزون وجسيمات محمولة جواً، وهو الضباب الدخاني. على الرغم من أن الأوزون في الطبقات المرتفعة من الغلاف الجوي يكون مفيداً ومهماً في الحماية من الأشعة فوق البنفسجية، فإنه وعندما يكون قريباً من سطح الأرض يصبح ضاراً على الصحة، إذ يمكن أن يتلف أنسجة الرئتين، ويسبب حكة وحرقان في العينين، ويشكل خطراً على حياة الأشخاص الذين يعانون من أمراض الجهاز التنفسي.
المشكلات الصحية التي يسببها الضباب الدخاني
وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، فإن 9 أشخاص من أصل 10 يتنفسون هواءً ملوثاً، وهو ما يودي بحياة 7 ملايين شخص كل عام، كما أن ثُلث الوفيات الناجمة عن السكتة الدماغية وسرطان الرئة وأمراض القلب ناتجة بشكلٍ أساسي عن تلوث الهواء. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ للهواء الملوث تأثيراً كارثياً على صحة الأطفال، إذ يعاني 14% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و18 عاماً من الربو الناتج عن تلوث الهواء، ويرتبط تلوث الهواء أيضاً بسرطانات الأطفال.
قد تزيد الجسيمات الدقيقة الموجودة في الضباب الدخاني من خطر الإصابة بأمراض القلب والجهاز التنفسي وسرطان الرئة، ويمكن أن يسبب ثاني أوكسيد النيتروجين وثاني أوكسيد الكبريت الربو وأمراض الشعب الهوائية والتهاب الرئة.
بشكلٍ عام، تتوقف شدة ضرر الضباب الدخاني على الكمية المُستنشقة وأنواع الملوثات الموجودة فيه، وكذلك تتعلق بعمر الفرد ووزنه ومستوى نشاطه وصحته العامة. بشكلٍ عام، قد يسبب الضباب الدخاني التأثيرات التالية:
- تهيّج العينين والأنف والحنجرة.
- ضعف وظائف الرئة.
- تفاقم أمراض الجهاز التنفسي وأمراض القلب.
- الموت.
اقرأ أيضاً: كيف يؤثر تلوث الهواء على إنتاج النباتات وأمننا الغذائي؟
أضرار الضباب الدخاني على البيئة
يؤثّر الضباب الدخاني على البيئة كما يؤثّر على صحة الإنسان، إذ يمكن للأوزون أن يتلف الخلايا النباتية ويمنع نموها، ما يقلل من كمية ثاني أوكسيد الكربون التي تمتصها النباتات أثناء عملية التمثيل الضوئي، ما يؤدي بدوره إلى انخفاض الغلّة الزراعية في معظم أنواع المحاصيل. بالإضافة إلى ذلك، فإن الجسيمات الدقيقة تحجب ضوء الشمس إلى حد كبير، ما يحدّ من قدرة النباتات على القيام بعملية التمثيل الضوئي.
بالإضافة إلى النباتات، يؤثّر الضباب الدخاني على الحيوانات أيضاً التي تجد صعوبة في التأقلم أو البقاء حية ضمن هذه الظروف السامة، ما يسبب نفوق العديد من أنواع الحيوانات أو يجعلها عرضة للإصابة بالأمراض.
اقرأ أيضاً: لا يعرف أغلبنا أن التلوث الضوئي يهدد بيئتنا… إليكم كيف نقلله
حلول الضباب الدخاني
ثمة العديد من الحلول التي يمكن تنفيذها لتقليل تلوث الهواء والحد من ظاهرة الضباب الدخاني، ومنها:
- الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة بدلاً من محطات الطاقة التي تعتمد على الوقود الأحفوري.
- خفض وإدارة الانبعاثات الناتجة عن عوادم السيارات والمصانع. على المستوى الشخصي، امشِ قدر المستطاع، استخدِم وسائل النقل العامة، قم بصيانة السيارة بشكل دوري مع تغيير الزيت في الموعد المحدد الذي قد يقلل استهلاك البنزين ويقلل من الانبعاثات إلى حدٍ ما.
- استخدام منتجات استهلاكية صديقة للبيئة: تجنّب استخدام المنتجات التي تحوي مستويات عالية من المركبات العضوية المتطايرة، وتجنّب استخدام معدات الفناء التي تعمل على الوقود مثل آلة جزّ العشب، واستخدام الأجهزة الكهربائية بدلاً عنها.
- ترشيد استهلاك الطاقة، وتقليل استهلاك الأشياء والمنتجات غير الضرورية، وإعادة استخدامها وتدويرها.
- استخدام أنظمة كشف ومراقبة الضباب الدخاني التي ترصد مستويات الملوثات في الهواء.
- الحماية الشخصية: على المستوى الشخصي، حاول أن تحمي نفسك من الضباب الدخاني عبر ارتداء الأقنعة الواقية أو استخدام أي أجهزة أخرى تحمي من التلوث بالجسيمات الضارة.