كيف يميز دماغك بين الأشياء الحقيقية والخيالية؟

4 دقيقة
كيف يحدد الدماغ ما هو حقيقي، ولماذا يفشل في بعض الأحيان.

يتعامل الدماغ مع الواقع والخيال بطريقة مترابطة تتيح له بناء تصور متماسك للعالم، لكنه في أحيان كثيرة قد يخطئ في التمييز بينهما:

  • الإدراك ليس تلقياً سلبياً للواقع، بل عملية نشطة يدمج فيها الدماغ الحواس مع الخبرات السابقة.
  • ثمة تجارب مبكرة أظهرت أن الناس قد يخلطون بين الصور …

إنه يوم ضبابي في مدينة نيويورك. من خلال شاشة جهازي الحاسوبي، أعتقد أنني أرى عالمة الأعصاب نادين ديكسترا وأسمعها. لكن كيف لي أن أكون متأكدة؟

تقول ديكسترا: "نحن نخلق إدراكنا للواقع بقدر ما ندركه".

وبدلاً من أن أطلب منها بفظاظة إجراء مجموعة من الاختبارات لإثبات وجودها، أثق بعيني وأذني، فهي طريقة فعالة للعيش. بينما قد يجادل علماء الأعصاب في التفاصيل، يتفق معظمهم على أن الإدراك -أي كيفية معالجتنا للمعلومات الحسية لخلق تجربة متماسكة- ينطوي على بناء نشط لواقع ما، على عكس التلقي السلبي للعالم من حولنا.

على سبيل المثال، عندما ترى طريقاً مزدحماً، فأنت تخلق هذا الواقع بطريقة فعالة، وتدمج بين المعلومات الواردة من حواسك (مشاهد السيارات المسرعة والأصوات الصادرة عنها) وتجاربك السابقة (معرفة أنك سرت على طول هذا الشارع الشهير من قبل). والإدراك السريع بأن السيارات التي تسير بسرعة في الشارع حقيقية يساعدك في الحفاظ على سلامتك.

هذا النموذج لتجربة الواقع فعال، ولكنه ليس مضموناً تماماً، فأحياناً يخطئ دماغنا في فهم الأمور. هذا التنافر هو ما تدرسه ديكسترا، التي تعمل باحثة رئيسية في مختبر تخيل الواقع في كلية لندن الجامعية، في أحدث دراسة لها، والتي نشرت مؤخراً في مجلة الأعصاب.

كيف تمكنت إحدى أوائل علماء النفس في القرن العشرين من خداع الأدمغة؟

الكثير من عمل ديكسترا مستوحى من عالمة النفس الرائدة ماري تشيفز ويست بيركي. في ورقة بحثية رائدة عام 1910 عن الخيال والإدراك، طلبت بيركي من المشاركين في الدراسة تخيل الأشياء -طماطم حمراء، وورقة خضراء، وما إلى ذلك- على جدار فارغ. وفي الخفاء، في تلك المساحة التي تبدو فارغة، عرضت بيركي صوراً بالكاد يمكن رؤيتها لتلك الأشياء نفسها على الجدار.

لم يكن الأشخاص الذين خضعوا للتجربة أكثر حكمة، إذ نسبوا الأشياء المتصورة إلى خيالهم بدلاً من الإسقاطات التي كانت تعرضها ديكسترا. وقد بدا، كما تأملت بيركي، أن "صورة الخيال يجب أن يكون لها الكثير من القواسم المشتركة مع إدراك الحياة اليومية".

وبعد مرور أكثر من قرن من الزمان، يتفق العديد من الباحثين مع هذا الرأي، معتقدين أن الخيال والإدراك يعملان معاً لخلق إحساسنا بالواقع. ولكن كيف يعرف دماغنا ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي؟ قد يحمل بحث ديكسترا الجديد الإجابة.

اقرأ أيضاً: لماذا تحتاج الأدمغة إلى النوم؟

اختبار الأدمغة في القرن الحادي والعشرين

تقول ديكسترا: "توقعنا أن تكون النتائج أدق وأكثر تعقيداً".

لكن ما حدث هو أن نشاط الدماغ الذي جرى فحصه بالاعتماد على التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) كشف لديكسترا حقيقة واضحة: يمكن لمستوى النشاط في التلفيف المغزلي أن يتنبأ بقضية إذا ما كان الشخص يعتقد أن الصورة حقيقية أم لا. تؤدي هذه المنطقة، التي تقع على جانبي الدماغ خلف الصدغين، دوراً مهماً في التعرف على الوجوه والأشياء، لكن قدرتها على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مزيف أمر لم يكن علماء الأعصاب على دراية به من قبل.

كانت الدراسة بمثابة إضفاء لمسة عصرية على تجربة بيركي. فبدلاً من عرض الفاكهة والأشياء الأخرى على الجدار، طلبت ديكسترا وزملاؤها من المشاركين تخيل مجموعات من الخطوط القطرية المائلة على شاشة. ثم عرضت هذه الخطوط على جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي عبر مرآة. (إن استخدام أشكال بسيطة، مثل الخطوط القطرية، جعل من السهل التنبؤ بما قد يتخيله الأشخاص. اطلب من المشاركين تخيل ورقة شجر، وقد يتخيلون عدداً كبيراً من الأشكال والألوان) عرضت الخطوط المائلة على خلفية مشوشة -مثل تشويش التلفاز- لتصعيب التمييز بين الواقع والخيال.

عندما رأى شخص ما خطوطاً معروضة حقيقية، كان النشاط في التلفيف المغزلي أقوى مما كان عليه عندما أدرك المشاركون أنهم كانوا يتخيلون الخطوط القطرية فحسب. في الجزء الأمامي من الدماغ، أظهر الفص الجزيري الأمامي للقشرة الجبهية الأمامية، التي تمثل حلقة وصل بين شبكات الدماغ، نشاطاً متزايداً أيضاً عندما رأى المشاركون الخطوط المعروضة.

ومع ذلك، عندما خلط شخص ما بين الخطوط المتخيلة والخطوط الحقيقية، أي عندما كان يعاني هلوسة خفيفة، أضاء كل من التلفيف المغزلي والفص الجزيري الأمامي، كما لو كان قد رأى الشيء الحقيقي.

"عتبة الواقع" في الدماغ

دفعت هذه النتائج ديكسترا وفريقها إلى استنتاج أن الإشارات المتخيلة والمتصورة تتحد لتكوين "إشارة الواقع". إذا كانت هذه الإشارة قوية بما فيه الكفاية، فإنها تتجاوز "عتبة الواقع" ونتقبل ما نتصوره على أنه واقع موضوعي.

وبينما تعتقد ديكسترا أن النشاط في التلفيف المغزلي يحدد إن كان الأمر يتجاوز عتبة الواقع، قالت إن بحثها لا يزال في مراحله الأولى. وتشير إلى أن الأمر قد يكون "عكس ذلك"، حيث يحدد النشاط في قشرة الفص الجبهي "إن كان الشيء حقيقياً أم لا بناء على إشارة أخرى" ثم يقدم تلك الإشارة "مرة أخرى إلى التلفيف المغزلي لتعزيز تجربتك أو جعل الأشياء تبدو أوضح".

اقرأ أيضاً: كيف يستنزف تعدد المهام الدماغ؟

النظر إلى ما هو أبعد من فحوص الدماغ

إن كيفية تجاوز عتبة الواقع أمر بالغ الأهمية. فإثبات وجود علاقة سببية بين النشاط في التلفيف المغزلي والهلوسة، على سبيل المثال، قد يتيح لمزاولي المهن الطبية في المستقبل تحفيز هذا الجزء من الدماغ لعلاج أعراض الفصام واضطرابات الدماغ الأخرى.

لا يمكن لهذا البحث أن يسلط الضوء على تفسير رؤية البشر لأشياء غير موجودة فحسب، بل يمكنه أيضاً تفسير سبب عدم تصديقنا لأعيننا في بعض الأحيان. عندما انتقلت ديكسترا إلى لندن أول مرة من هولندا، رأت مخلوقاً من بعيد في أثناء سيرها في الحي الذي كانت تسكنه. افترضت أنه كلب، على الرغم من أنه كان يتجول بمفرده. تقول ديكسترا: "لقد فوجئت حقاً، وقلت في نفسي: ’أين مالكه؟ لقد رأيت كلباً حقاً". لو أنها أشاحت بوجهها بعيداً ولم تشكك في حقيقة ما رأته، فلربما لم تكن لتدرك أن ما رأته في الواقع كان ثعلباً، وهو واحد من بين 10,000 تقريباً من الثعالب التي اتخذت مدينتها الجديدة موطناً لها. لقد أبصرت ديكسترا شيئاً لا يتطابق مع تجاربها السابقة، ورأت للحظة شيئاً لم يكن له وجود.

فيما يخص مستقبل بحث ديكسترا، فهي تقول إن هناك العديد من الأسئلة التي لم تجب عنها بعد حول الإدراك الحسي، مثل إن كان الأشخاص أصحاب الخيال الواسع أكثر عرضة للهلوسة. في هذا المجال، من المهم أن نتحدى باستمرار ما نعتقد أنه حقيقي. تقول ديكسترا: "قد تخطر في بالك هذه الفكرة الرائعة حقاً والتي تبدو منطقية للغاية، وتبدو كأنها تفسر الكثير من الأشياء، ثم يتبين أنها خاطئة تماماً. ولا بأس في ذلك، فما زلنا نحرز تقدماً". 

المحتوى محمي