ما سر صمود أبنية حضارة المايا؟

ما سر صمود أبنية حضارة المايا؟
حقوق الصورة: غيتي إيميدجيز.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

قد تعتقد أنه من غير المرجح أن يكون البشر في إحدى مدن حضارة المايا القديمة قد أجروا التجارب على المواد الكيميائية الخاصة بهم؛ ولكن يعتقد العلماء أن هذا حصل في منطقة كوبان (Copán)، وهي مجمّع أثري يقع في وادٍ بالغابات المطيرة الجبلية فيما يعرف اليوم بغرب الهندوراس.

وفقاً لتقديرات المؤرخين؛ بدأ العصر الذهبي لمنطقة كوبان في العام 427 ميلادي عندما أتى ملك يحمل اسم ياش كوك مو (Yax Kʼukʼ Moʼ) إلى هذا الوادي من الشمال الغربي. بنت سلالة هذا الملك إحدى أجمل المدن في حضارة المايا؛ ولكنها تخلّت عنها بحلول القرن العاشر، تاركة ساحاتها وقصورها تحت رحمة الغابة. بعد أكثر من 1,000 عام، بقيت الأبنية في منطقة كوبان واقفة وبحالة جيدة بشكل مثير للإعجاب، على الرغم من أنها تعرّضت للشمس الاستوائية والرطوبة لفترة طويلة.

مادة الجص قد تحمل السر

قد يكمن سر بقاء هذه البنى في مادة الجص (تحمل أيضاً اسم القصارة) التي استخدمها البشر في حضارة المايا لطلاء الجدران والأسقف في كوبان. يشير بحث جديد إلى أن حرفيي المايا استخدموا النسغ المستخرَج من لحاء الأشجار المحلية ومزجوه مع الجبس؛ ما منحه القدرة على زيادة متانة الأبنية. ابتكر بناة المايا، سواءً عن قصد أو عن طريق الخطأ، مادة تشبه إلى حد كبير مادة تحمل اسم “عرق اللؤلؤ” (يُطلق عليها أيضاً اسم أم اللؤلؤ) تُعتبر من المكونات الطبيعية لأصداف الرخويات.

يقول عالم المعادن في جامعة غرناطة في إسبانيا والمؤلف الرئيسي للورقة البحثية الجديدة، كارلوس رودريغيز نافارو (Carlos Rodríguez Navarro): “كشفنا أخيراً سر بناة المايا القدماء”. نشر رودريغيز نافارو وزملاؤه نتائج بحثهم في مجلة ساينس أدفانسس (Science Advances) بتاريخ 19 أبريل/ نيسان 2023.

اقرأ أيضاً: كيف تصمد المدن طويلاً أمام الزمن؟

وصفة بسيطة لزيادة متانة أبنية المايا

اتّبع صانعو الجص وصفة بسيطة للغاية. تنص هذه الوصفة على خَبز نوع من الصخور الكربوناتية مثل الصخور الجيرية على درجة حرارة تتجاوز 530 درجة مئوية، وإضافة المياه إلى الجير الحيّ الناتج ثم ترك المزيج ليتفاعل مع ثنائي أوكسيد الكربون في الهواء. يطلق البناة على المنتج النهائي اسم الجص الجيري أو النورة (أو الملاط الجيري).

اكتشفت عدة حضارات حول العالم هذه العملية بشكل مستقل غالباً. على سبيل المثال؛ تعلّم الأميركيون من المكسيك وأميركا الوسطى طريقة تحضير هذه المادة قرابة القرن الـ 12 قبل الميلاد. على الرغم من أن البشر القدماء اعتبروا أن الجص الجيري مفيد لتغطية الأسطح وتثبيت الطوب معاً، فهذا المزيج لا يُعتبر متيناً بدرجة كبيرة وفقاً للمعايير الحديثة.

تُعتبر مدينة كوبان بمعابدها وساحاتها وشرفاتها وسماتها الأخرى مثالاً نموذجياً عن حضارة المايا الكلاسيكية. شين يويه (Xin Yuewei) /شينوا عن طريق غيتي إميدجيز
تُعتبر مدينة كوبان بمعابدها وساحاتها وشرفاتها وسماتها الأخرى مثالاً نموذجياً عن حضارة المايا الكلاسيكية. شين يويه (Xin Yuewei) /شينوا عن طريق غيتي إميدجيز

مع ذلك، اختلفت وصفات تحضير الجص الجيري من مكان لآخر تماماً كما تختلف وصفات الطعام. يقول عالم المواد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي)، أدمير ماسيتش (Admir Masic)، الذي لم يشارك في البحث الجديد: “ينتج بعض الوصفات موادَ بجودة أعلى”. يتفق الخبراء على أن الجص الجيري الذي حضّره بناة المايا هو أحد أفضل الأنواع.

وسعى رودريغيز نافارو وزملاؤه لاكتشاف سبب ذلك. وجد هؤلاء أول دليل عندما فحصوا قطع الجص التي يبلغ حجمها حجم الطوب والمستخرجة من جدران مدينة كوبان وأرضياتها باستخدام الأشعة السينية والمجاهر الإلكترونية. ووجد الباحثون آثار المواد العضوية مثل الكربوهيدرات داخل هذه القطع.

يقول رودريغيز نافارو إن ذلك أثار فضول أعضاء الفريق لأنه يؤكد ما ورد في السجلات الأثرية والمكتوبة السابقة التي تشير إلى أن بناة المايا القدماء أضافوا المواد النباتية إلى الجص الذي حضّروه. لا يمكن أن يفسّر استخدام المكونات الأخرى (الجير والماء) وجود السلاسل الكربونية المعقدة في قطع الجص الجيري.

استخدام مواد نباتية في المزيج

قرر الباحثون تحضير الجص الجيري بأنفسهم للتحقق من هذا الكلام، واستشاروا البناة الأحياء وأحفاد المايا الذين يعيشون بالقرب من منطقة كوبان. نصح السكان المحليون الباحثين باستخدام أشجار التشوكوم (chukum) (اسمها العلمي هارفارديا ألبيكانس) وأشجار الجيوتيه (jiote) (اسمها العلمي بورسيرا سيماروبا) التي تنمو في الغابات المحيطة، ونصحوهم باستخدام النسغ الذي يمكن استخراجه من لحاء هذه الأشجار تحديداً.

أشجار بورسيرا سيماروبا المعروفة محلياً أحياناً باسم "أشجار جيوبيه" (jiobe). ديبوزيت فوتوز
أشجار بورسيرا سيماروبا المعروفة محلياً أحياناً باسم “أشجار جيوبيه” (jiobe). ديبوزيت فوتوز

اختبر الباحثون تفاعل النسغ عند إضافته إلى الجص. تسبب النسغ بزيادة متانة المزيج كما أنه جعله غير قابل للذوبان في الماء؛ ما يفسر جزئياً صمود أبنية منطقة كوبان في وجه الظروف المناخية.

تشبه البنية المجهرية للجص المعزز بالنبات البنية المجهرية لعرق اللؤلؤ، وهو المادة القزحية التي يركبها بعض أنواع الرخويات لتغطية الأصداف. لا يعلم العلماء بالضبط كيف تصنع الرخويات هذه المادة؛ ولكنهم يعلمون أنها تتألف من الصفائح البلورية التي تحتجز بروتينات مرنة بينها. تزيد هذه المادة من صلابة أصداف الرخويات وتحميها من التجوية الناجمة عن الأمواج.

اقرأ أيضاً: رغم أنها أسطورة: 7 أماكن محتملة لمملكة أتلانتس المفقودة

كشفت دراسة تفصيلية أجريت على عينات الجص القديمة ونظائرها الحديثة أن هذه العينات تحتوي على طبقات من صفائح الكالسيت الحجري والمواد النسغية العضوية؛ ما يمنح المادة القدرة على التحمل نفسها التي يتمتع بها عرق اللؤلؤ. يقول رودريغيز نافارو: “تمكّن بناة المايا من صنع مادة تصنعها الكائنات الحية”.

ويقول ماسيتش: “هذه نتائج مثيرة للحماس بالفعل. يبدو أن المواد النباتية تعزز خصائص الجص العادي”.

طريقة عابرة للحضارات

يحاول رودريغيز نافارو وزملاؤه حالياً الإجابة عن سؤال آخر: هل من المحتمل أن تكون الحضارات الأخرى التي اعتمدت على البناء، من إيبيريا إلى الإمبراطورية الفارسية إلى الصين، قد اكتشفت السر نفسه؟ على سبيل المثال؛ نعلم أن صانعي الجص الجيري الصينيين أضافوا حساء أرز لزج إلى الجص لزيادة قوته.

الجص الجيري ليس المادة القديمة الوحيدة التي أعاد العلماء تحضيرها. وجد ماسيتش وزملاؤه أن الخرسانة الرومانية القديمة تتمتع بالقدرة على “الترميم الذاتي”. قبل أكثر من ألفيّ عام، من المحتمل أن يكون البناة في الإمبراطورية الرومانية قد أضافوا الجص الحي إلى الأخلاط الصخرية؛ ما أدى إلى تشكّل بنىً مجهرية داخل هذه المواد تساعد على ملء المسام والشقوق عند تلامسها بماء البحر.

يعتقد المهندسون الحديثون أن هذه الخاصية مفيدة. نشأ حديثاً مجال بحثيّ آخذ بالازدهار يختص بدراسة المواد القديمة وإعادة تركيبها؛ إذ أثبتت الهياكل الواقفة في المواقع الأثرية أنها قادرة على الصمود في وجه الزمن. وما يمثل ميزة إضافية لتطوير هذا المجال البحثي هو أن القدماء كانوا يميلون لتطبيق آليات أكثر استدامة كما أنهم استخدموا كمية أقل من الوقود مقارنة بالبشر بعد الثورة الصناعية.

يقول ماسيتش: “الورقة البحثية الجديدة هي مثال رائع على هذا النهج العلمي”.

اقرأ أيضاً: كيف يتم بناء السدود؟ وكيف تمنع تسريب الماء بعد 100 عام من إنشائها؟

لن يحل الجص الذي استخدمه المايا محل الخرسانة التي تُستخدم في كل مكان في العالم حالياً؛ ولكن العلماء يقولون إن هذه المادة يمكن أن تُستخدم في حفظ الأبنية التي شُيّدت قبل الثورة الصناعية وتحديثها. قد تزيد إضافة القليل من نسغ النباتات قروناً من الزمن إلى أعمار الأبنية.