حكاية علمية: نظريات غريبة فسّر بها البشر هجرة الطيور

4 دقائق
مع اقتراب الشتاء في أوروبا، كانت تطير أنواع عديدة من الطيور بعيداً إلى مكان ما أو تختفي ببساطة. لم يعلم أحد أين كانت تذهب الطيور. سايلس بيتيرز/أن سبلاش

عكس النجوم، القمر قريب بما يكفي حتى يستطيع الناس تخيّل السفر إليه. تطوّرت طريقة السفر عبر الفضاء المفضلة لديّ على يد الكاتب الفرنسي «سيرانو دو بيرجيراك»، حيث استخدم في روايته الساخرة «رحلة إلى القمر»؛ التي نُشرت عام 1657 مَنطقاً خالياً من العيوب. قرر دو بيرجيراك استغلال ظاهرة صعود الندى كل صباح مع شروق الشمس بسبب التبخّر، وكتب:

زرعت نفسي بين عدد كبير من الكؤوس المملوءة بالنّدى؛ التي ضربتها الشمس بقوّة بأشعتها، حتّى أن الحرارة التي جذبت هذه الكؤوس، كما تفعل بالسحب السميكة، حملتني عالياً حتى أصبحت بعد حين فوق المنطقة الوسطى من الهواء.

بعد ارتفاعه في الهواء، لم يكن التوجيه عملية سهلة كما توقّع: بدلاً من أن يحمله الندى مباشرة للأعلى باتّجاه القمر، وجد نفسه يتحرك بعيداً عنه. أُجبر دو بيرجيراك في مخيّلته على أن يكسر بعض الأواني الزجاجية التي جمّع الندى فيها حتى ينجز مغامرته التالية؛ النزول عودةً للأرض.

هذا المقال مقتبَس من كتاب أليس جورمان بعنوان «د. سبيس جنك ضد الكون.» بينجوين راندوم هاوس

تضمَّنت محاولة دو بيرجيراك التالية دواليباً من الألعاب النارية، صاروخاً مجهّزاً قذف به إلى القمر. هذه المرة، التقى هناك رجلاً إسبانياً ضئيلاً ومسنّاً؛ والذي كان قد وصل إلى القمر بطريقة خيالية بنفس القدر: الطيور، على ما يبدو! أحد ما وصل إلى القمر قبل دو بيرجيراك. كيف؟ ولماذا؟

لا تتعلق قصة الرجل الإسباني فقط بالسفر إلى القمر، بل بظاهرة أرضية كانت إحدى الألغاز العلمية الكبيرة لدى اليونانيين القدماء حتى القرن السابع عشر: أين تذهب الطيور في الشتاء؟ هذا كان حدثاً سنوياً؛ إذ بقدوم الشتاء في أوروبا، تطير أعداد كبيرة من أنواع الطيور بعيداً لمكان ما أو تختفي ببساطة، ولم يعلم أحد أين كانت تذهب.

كان لدى الفيلسوف أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد فرضيتان حول هجرة الطيور، فقد افترض أن الطيور دخلت في سبات خلال الشتاء كبعض الحيوانات الأخرى؛ طيور السنونو مثلاً تغلّف نفسها بكرات صغيرة من الطين وتحتجب عن الأنظار في المستنقعات، أما فكرته الثانية كانت أن الأنواع المفقودة كانت تحوّل نفسها إلى الطيور التي بقيت خلال الشتاء، ثم تتحوّل مجدداً بقدوم الصيف.

مع قدوم الشتاء في أوروبا، تطير أعداد كبيرة من أنواع الطيور بعيداً لمكان ما أو تختفي ببساطة. لم يعلم أحد أين كانت تذهب الطيور!

كان الرجل الإسباني في قصة دو بيرجيراك جندياً مُتَخَيَّلاً اسمه «دومينجو جونزاليس»، وكان أيضاً بطل قصة أخرى. قبل أن تصبح رواية «رحلة إلى القمر» متوافرة بحوالي العقدين، وفي عام 1638، نشر رجل الدين الإنجليزي فرانسيس جودوين «الرجل في القمر»؛ وهو سرد خيالي لمغامرة جونزاليس القمرية. درّب جونزاليس في هذا الكتاب 25 بجعة على سحب «محرّك» صنعه بنفسه، وفي أحد الأيام، بدأ برحلة على عربة البجعات خاصته، وتزامنت هذه الرحلة مع الوقت الذي اعتادت فيه الطيور على الاختفاء من الأرض كما كان يبدو.

كان جونزاليس على وشك حل اللغز، لكن ما فاجأه كان أن البجعات طارت إلى الأعلى حتى وصلت إلى ما ندعوه «مداراً» وأصبحت عديمة الوزن. لم تكن تجارب العالم الفرنسي «بليز باسكال» التي تبيّن غياب الغلاف الجوي في الفضاء قد وصلت إلى جودوين بعد، وبالنسبة له، كان كل من الإنسان والطيور يتنفّسون بشكل طبيعي هناك. بعد 12 يوماً، وصلت البجعات إلى القمر حيث وجد جونزاليس طيوراً أرضية مهاجرة أخرى، مثل السنونو، طيور العندليب و ديك الغاب. عندما بدأت البجعات تُظهر الهياج، استنتج جونزاليس أنها أصبحت جاهزة للعودة إلى الأرض، وبذلك، جمّعها مجدداً وأبحر عائداً إلى الأرض بعد 9 أيام، وجاذبية الأرض في اتجاهه.

إنّ هذه القصص خيالية بالتأكيد، لكن اعتقد البعض أنها بدائل محتملة لفرضيات أرسطو، وبالأخص نتيجة لوجود مقطع في الإنجيل يبدو أنه يلمّح لهذه القصص. يقول المقطع:

بل اللَّقلق في السّماوات يعرف ميعاده، واليمامة والسّنونة المزقزقَة حَفِظتا وقت مجيئِهمَا (إرميا 7:8)

نشر أستاذ غير معروف؛ على الأرجح الفيزيائي المنشق «تشارلز مورتون»، في 1684 كتيّباً بعنوان «تحقيق في المعنى المادي والحرفي لهذا الكتاب المقدس». اتّبع مورتون؛ وهو ذو شخصية مثيرةٍ للاهتمام، نُهجاً ثورية للتدريس باستخدام اللغة الإنجليزية بدلاً من اللّاتينيّة، ونتيجة لذلك، اعتُقل وأُجبر على الفرار إلى أميركا. ألّف مورتون في الخيمياء وعلم الفلك، إضافة إلى تأليفه واحداً من أكثر كتب الفيزياء المدرسية استخداماً في أميركا قبل أن يقلب إسحق نيوتن كل شيء رأساً على عقب باختراع التفاضل والتكامل، واكتشاف قانون التجاذب العالمي. يبدو أن مورتون قد قرأ قصة جودوين حول مركبة البجعات القمرية، وقدّم في الكتيّب محاججة علمية تنص على أن الطيور تقضي الشتاء فعلاً على القمر. إذا كانت الطيور قادرة على ذلك فعلاً، سيكون البشر بالطبع قادرين أيضاً حتى بعدم امتلاكهم أجنحة.

رفض مورتون فرضية السبات الرائجة الخاصة بأرسطو، وأشار إلى عيب كبير فيها يتمثّل في إمكانية أن الطيور تهاجر ببساطة إلى مكان آخر على الأرض: لم يعلم أحد في أوروبا أين كانت تذهب الطيور، إنها كانت تختفي حرفياً. حاجج مورتون أن الطيور التي تعود؛ مثل ديك الغاب، تبدو وكأنّها تسقط من السماء فجأة على السفن في البحر.

استغرقت رحلة الطيور إلى القمر شهراً واحداً؛ وهي مدة أخذت بالحسبان لتقديرها المسافة التي تفصلنا عن القمر ومدّة غياب الطيور السنوية. لم يكن هناك أي مقاومة في الهواء تُعيق رحلة الطيور (لذا، فقد أخذ مورتون بعين الاعتبار الكثير من استنتاجات باسكال)، كما ساهم غياب الجاذبية بتسهيلها. نامت الطيور طيلة الرحلة، وعاشت على الشحوم في أجسادها. كانت القصة منطقية تماماً، بطريقتها الخاصة.

حاجج مورتون أن الطيور التي تعود؛ مثل ديك الغاب، تبدو وكأنّها تسقط من السماء فجأةً على السفن في البحر

هناك عدة عوامل وحوادث قادت إلى إدراك أن الطيور تهاجر إلى قارات أخرى بدلاً من القمر، لكن إحدى الأحداث المدهشة وقعت في 1882 في ميكلينبورغ، ألمانيا؛ أطلق أحدهم النار على لقلق أبيض، وعندما سقط إلى الأرض، رأى هذا الشخص أن اللقلق قد نجى من محاولة قتل سابقاً؛ إذ كان هناك رمحٌ يخترق رقبته. أخذ الصيادون اللقلق مفتونين به إلى جامعة روستوك القريبة، حيث تم التعرف على الرمح على أنه من مصدر «وسط إفريقي»، بالتالي، فاللقلق قد طار لمسافة تقرب 4800 كم بوجود هذا الرمح ذو الرأس الحديدي؛ والذي يبلغ طوله حوالي 80 سم في رقبته. أصبح اللقلق معروفاً باسم «فايلشتورش» (أي «لقلق الرمح» بالألمانية)، وتم تحنيطه وهو موجود الآن ويمكنك رؤيته في مجموعة جامعة روستوك الحيوانيّة.

في بيروت عام 1895، شاهد فلكيٌ هاوٍ باستخدام تلسكوب كاسر قطره 30 سم، نحو 50 إلى 60 طيراً يطيرون في أزواج باتّجاه الجنوب متجاوزين قرص القمر الذي كان منخفضاً على مستوى الأفق لبضع ساعات، ذُهل الفلكي بهذا المنظر. من المرجّح أن تكون هذه الطيور لقالقاً بيضاء، إذا أن أسرابها تطير فوق لبنان خلال الخريف في طريقها إلى الجنوب. لو كان تشارلز مورتون قادراً على استخدام تلسكوب، لكان على الأرجح قد اعتبر أن هذه الظاهرة هي دليل إضافي على فرضية الهجرة القمرية.

عندما وصل البشر أخيراً إلى القمر في ستّينيات القرن الماضي، أُنجزت الرحلة على متن صواريخ مُعدّة أكثر تعقيداً بكثير من مركبة دو بيرجيراك؛ التي تُحرّكها الألعاب النارية، والتي تخيّلها قبل أكثر من 300 سنة. بحلول ستينات القرن الماضي، أصبحنا نعلم أن القمر ليس له غلاف جوّي، وأن طيور الأرض لم تكن لتستطيع الطيران.

هذا المقال محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً

المحتوى محمي