لنتحدّث قليلاً عن العلاقات الجنسية. وعلى وجه الخصوص، تلك التي لا تتطلب وجود شريكين. على الرغم من أن هذا النوع من العلاقات الجنسية لا ينتج النسل عادةً، فإن الإنجاب الذي لا يتضمن مساهمة الذكور شائع بين الحيوانات اللافقارية الصغيرة مثل نجوم البحر والحشرات العصوية (أو العصويات). مع ذلك، يعتبر هذا النوع من التكاثر نادراً بين الحيوانات الفقارية. من خلال عملية تحمل اسم التوالد العذري، تستطيع إناث بعض أنواع الحيوانات التي تنتمي إلى رتبة صفيحية الخياشيم الغضروفية، والتي تشمل أسماك القرش والراي الورنك، تلقيح البيوض باستخدام مادتها الوراثية الخاصة.
اقرأ أيضاً: رحلة قصيرة إلى مجتمع الحيتان في نصف الكرة الأرضية الجنوبي
على الرغم من وجود الذكور: إناث تنتج النسل بمفردها
عادة ما تلجأ أسماك القرش لإجراء هذه العملية عند انخفاض عدد الذكور في المجموعة، ولكن بينت دراسة جديدة أن الإناث من نوع أسماك قرش الحمار الوحشي والتي تعيش في حديقة أسماك شيد في مدينة شيكاغو الأميركية تمكّنت من التكاثر بنفسها على الرغم من وجود ذكور أصحاء في الحيز الذي تعيش فيه.
تقول مساعدة مدير العمليات والمواطن الحيوانية في حديقة أسماك شيد والمؤلفة المشاركة للدراسة الجديدة، ليز واتسون (Lise Watson)، في إشارة إلى الظاهرة الحيوية التي تتسبب في الولادات العذرية: "تغير هذه النتائج ما نعتقد أننا نعرفه عن التوالد العذري وأسباب حدوثه"، وتضيف: "لدينا سجل طويل عن جماعات أسماك القرش في حديقة شيد، والذي تمكّنا من توثيقه من خلال رصد هذه الأسماك لمدة 20 عاماً. لاحظنا أن إناث أسماك قرش الحمار الوحشي لا تتقبل تقرّب الذكور كثيراً في بعض الأحيان، وذلك إذا تقبّلته في المقام الأول".
اقرأ أيضاً: حكاية فريق بحثي في جزر البهاما لمعرفة كيف تتكاثر أسماك القرش
على الرغم من أن الدراسات السابقة وصفت بالتفصيل ظاهرة التوالد العذري لدى أسماك قرش الحمار الوحشي التي تعيش في حدائق الأسماك الأخرى، فإن الدراسة الجديدة، والتي نُشرت في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2022 في مجلة علم أحياء الأسماك (Journal of Fish Biology)، تمثّل خطوة جديدة تجاه فهم أسباب هذه الظاهرة. ركّز مؤلفو الدراسة على إحدى إناث أسماك قرش الحمار الوحشي التي تعيش في معرض الشعاب البرية في حديقة أسماك شيد. تعيش أسماك قرش الحمار الوحشي في المحيطين الهادئ والهندي، وهي أسماك داكنة اللون تحتوي على خطوط مصفرّة على أجسامها.
في عام 2008، نقلت واطسون وزملاؤها مجموعة من البيوض الملقّحة إلى حضانة صغيرة معزولة ومخصصة لأسماك القرش، حيث يمكن أن تفقس هذه البيوض بأمان بعيداً عن الأضواء في أحواض الأسماك.
توالد عذري
كشف تحليل الحمض النووي لصغار أسماك القرش التي فقست حديثاً عن نتائج تبدو مستحيلة. لم تحتوِ أجسام هذه الأسماك على المواد الوراثية التي تعود لذكور الحديقة. بدلاً من ذلك، احتوت أجسام الأسماك على نسخ متطابقة من بعض الأليلات، وهي نسخ بديلة عن المورثات. أظهر هذا التحليل أن الحمض النووي الذي يوجد في أجسام صغار الأسماك يعود لأمهم وليس لأبوين مختلفين.
قال عالم الأحياء والباحث في متحف فيلد والمؤلف المشارك للدراسة الجديدة، كيفن فيلدهايم (Kevin Feldheim)، في بيان صحفي: "لم تتطابق المادة الوراثية لصغار الأسماك مع تلك التي تعود إلى الذكور البالغين في الحديقة. مع ذلك، فهي تطابقت مع المادة الوراثية التي تعود للأنثى التي وضعت البيوض".
نسل قصير العمر
غالباً ما يموت النسل الناتج عن عملية التوالد العذري في سن مبكرة. وبالفعل، ماتت صغار أسماك القرش التي استُخدمت في الدراسة بعد بضعة أشهر فقط من ولادتها.
قال فيلدهايم لموقع بوبيولار ساينس (العلوم للعموم): "لا نعلم بالضبط سبب قصر عمر هذا النسل"، وأضاف: "في علم الوراثة، يعتبر التوالد الداخلي مضراً بالنوع عموماً. ويعود ذلك إلى أنه نتيجة لهذه العملية، يتم التعبير إما عن [مورثة] متنحية مميتة، أو عن أليلين يتسببان بموت النسل".
مع ذلك، لا يزال من غير الواضح بالضبط ما الذي يتسبب في موت بعض الحيوانات المولودة بهذه الطريقة قبل نضجها جنسياً، بينما يبقى بعضها الآخر على قيد الحياة. يقول فيلدهايم: "لاحظ الخبراء في إحدى حدائق الأسماك أن إحدى الإناث التي تنتمي إلى نوع يحمل اسم أسماك قرش البامبو المرقطة بالأبيض أنجبت من خلال عملية التوالد العذري، وأن إحدى الإناث التي أنجبتها تمكّنت من الإنجاب بنفس الطريقة أيضاً".
لا تقتصر تبعات نتائج الدراسة الجديدة على طرق رعاية أسماك قرش الحمار الوحشي التي تعيش في حدائق الحيوانات والأسماك، بل إنها تؤثر أيضاً في جهود الحفاظ على هذا النوع، والتي يتم التركيز فيها على أسماك القرش البرية بشكل أساسي.
اقرأ أيضاً: غناء الطيور قد يكون منشؤه في جيناتها
تقول طالبة الدكتوراة في جامعة شهيد بهشتي في طهران وعضو منظّمة الأقليات في علوم أسماك القرش (Minorities in Shark Sciences)، سارة أسدي غرباغي (Sara Asadi Gharabaghi)، والتي لم تشارك في الدراسة الجديدة: "يواجه الباحثون في دراسة أسماك القرش صعوبات عدة". تتمثل إحدى هذه الصعوبات في عدم القدرة على الحصول على عينات لجميع الأسماك البالغة وصغارها بهدف تحديد الآباء البيولوجيين.
تضيف غرباغي قائلة: "يشبه سلوك أسماك القرش سلوك جميع الحيوانات التي تحاول البقاء. لذلك، ليس من الغريب أن تحدث الولادات العذرية في البرية أيضاً، حتى ولو لم نتمكن من إثبات ذلك". تقول غرباغي أيضاً إنه من المحتمل أن إناث أسماك القرش التي تعيش في المياه العميقة تتّبع الاستراتيجية نفسها.
عملية قد تكون مفيدة لأسماك قرش الحمار الوحشي المهددة بالانقراض
يعتبر فهم عملية التكاثر ضرورياً لاستراتيجيات الحفاظ على الأنواع بالنسبة للعلماء الذين يدرسون أسماك القرش المهددة بالانقراض، سواء كانت تعيش في البرية أو حدائق الأسماك.
تم تصنيف أسماك قرش الحمار الوحشي على أنها مهددة بالانقراض في القائمة الحمراء التابعة للاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة والموارد الطبيعية، ويعمل الخبراء في حدائق الأسماك مثل حديقة أسماك شيد على الحفاظ على هذا النوع. تعتبر الاختبارات الوراثية التي يجريها هؤلاء جزءاً من خطة بقاء الأنواع التي وضعتها جمعية حدائق الحيوان وحدائق الأحياء المائية (the Association of Zoos and Aquariums)، والتي توحد جهود المستشارين الخبراء بهدف زيادة التنوع الوراثي قدر الإمكان وحماية الأنواع المهددة بالانقراض على المدى الطويل.
تقول واتسون إن أحد جوانب هذه الخطة يتمثل في تحديد "التركيب الوراثي لهذه الجماعات وطرق الحفاظ عليها". تستطيع واتسون وزملاؤها وضع افتراضات حول مدى الارتباط الوراثي بين أفراد جماعات أسماك القرش من خلال إجراء التحليلات الوراثية. وعند تحقيق ذلك، يستطيع الباحثون التنبؤ بتغير حجم هذه الجماعات خلال المائة عام القادمة.
اقرأ أيضاً: تعرف على الحالة الغريبة للقطط البرية المهددة بالانقراض وشجرة الفاكهة المختفية
تقول واتسون: "تعتبر دراسة هذه الحيوانات التي نرعاها عاملاً أساسياً يمكّننا من الحفاظ على هذا النوع في البرية"، وتضيف: "الرعاية التي نقدّمها لهذه الحيوانات في حديقة شيد ذات أهمية قصوى بالنسبة لنا".