تخيل نفسك كأول عالم طبيعة يقف في مكانٍ لا تتوفر عنه إلا القليل من المعرفة العلمية؛ مثلما كان الحال عندما درس ألفريد راسل والاس أرخبيل الملايو (أرخبيل هو مجموعة متجاورة من الجُزر)، أو عندما جال عالم الطبيعة والمستكشف ألكسندر فون هومبولت في الأميركتين في أوائل القرن التاسع عشر. ستعمل الملاحظات التي تسجلها على توسيع المعرفة العلمية للبشرية بالعالم الطبيعي، وتُستخدم عينات النباتات والحيوانات التي تجمعها لقرونٍ لتوصيف التنوع البيولوجي في الماضي والحاضر، ولتحقيق اكتشافاتٍ جديدةٍ في الطب الحيوي وغيره، لكن تخيل الآن لو أن هذه العينات لم تُجمع مطلقاً.
يمكن أن يحدث ذلك لو لم تتم أرشفة العينات التي جمعت، ففي الحقيقة، تُعدّ متاحف التاريخ الطبيعي مكان حفظ مثل هذه العينات، وتضمن للمجتمع العلمي الوصول إليها في المستقبل؛ سواء كانت على الرفوف أو في المكتبات، من خلال إتاحتها عبر قواعد البيانات على الإنترنت، ولكن بالرغم من استمرار العلماء بجمع العينات من العالم الطبيعي أثناء إجراء أبحاثهم، لكن العديد منها لا يُحتفظ بها في النهاية في المكان المناسب؛ أي في المستودعات البيولوجية. إذا لم تتم أرشفة العينات بشكلٍ مناسب، فسيتعين على جيل العلماء القادم القيام بهذا العمل مجدداً كمَن يعيد اختراع العجلة، وسيضيع المزيد من الوقت والمال في إعادة اكتشاف البيانات وتنظيمها ليتمكن العلماء من الإجابة على الأسئلة المستقبلية.
هناك مجموعة متنوعة من الأسباب التي قد تؤدي لعدم حفظ العينات وأرشفتها؛ مثل عدم حصول الجيل الجديد من العلماء على التدريب المناسب حول كيفية حفظ العينات وأرشفتها، وضعف تمويل مجموعات التاريخ الطبيعي المختلفة وتدني أولوية وأهمية هذه البيانات بالنسبة للمنظمات التي تمول المعرفة العلمية وتنشرها.
نُوجز نحن وزملاؤنا ضمن ورقةٍ بحثيةٍ جديدة؛ نُشرت في دورية «بيوساينس»، كيف أصبح التخلّص من العينات البحثية سهلاً للغاية بعد الانتهاء من استخدامها، بسبب الثغرات الموجودة في سياسات البيانات الفيدرالية في الولايات المتحدة، وتراجع أولوية البيانات الأولية بالنسبة بالنسبة للدوريات العلمية، وثقافة ملكية البيانات السائدة. في الواقع، تعيق هذه المشكلة التقدم العلمي، لكن لم يفت الأوان بعد لاستدراك هذا الخطأ الفادح والتغيير.
العينات القديمة تؤدي لاكتشافاتٍ جديدة
يمكن استخدام العينات القديمة المؤرشفة في المتاحف؛ من عظامٍ وجلود وأنسجة مختلفة، في الأبحاث اللاحقة للإجابة عن الأسئلة العلمية المستجدة؛ بما فيها الإجابة عن العديد من المخاوف والاهتمامات المجتمعية، وخير مثالٍ نسوقه في الوقت الحالي على ذلك هو استخدام الأنسجة المحفوظة لتتبع أصول الأمراض الحيوانية المنشأ؛ فمعظم الأمراض الجديدة التي تصيب البشر أصلها حيواني، بما فيها فيروس كورونا وداء الكلب وميرس والإيبولا.
في هذا السياق، تكتسب متاحف التنوع الحيوي؛ بما تحتويه من عينات الحياة البرية المحفوظة بشكلٍ ملائم، والتي تُجمع لغرضٍ مختلفٍ تماماً؛ مثل الأبحاث البيئية أو لهدف الحفظ، أهمية كبرى في أبحاث الصحة العامة؛ حيث يمكن استخدام كل عينة مؤرشفة لتحديد مصادر العامل الممرض البري، ومراقبة التغيرات في انتشار المرض وتوزيعه بمرور الوقت وتحديد العوامل البيئية التي قد تؤدي إلى انتقال المرض إلى البشر.
على سبيل المثال، انتقل فيروس مميت إلى البشر في أوائل التسعينيات أدى لوفاة 13 شخصاً في جنوب غرب أميركا، فاستعان الباحثون بعينات الثدييات المحفوظة في متحف ساوث ويسترن للأحياء؛ والتي كانت قد جُمعت في الأصل من أجل أبحاثٍ أخرى، لتحديد العامل الممرض الذي تبين أنه ينتمي لعائلة فيروسات هانتا، ومصدره البري هو فأر الغزلان. فقد أثبتت عينات المتحف أن الفيروس كان ينتشر في مجموعات القوارض في الجنوب الغربي منذ ما يزيد عن عقدٍ من الزمن، وأن ظهوره كان مرتبطاً بظاهرة النينو المناخية، وبذلك تقدم مجموعات المتاحف أدلة علمية قوية تستنير بها الصحة العامة، وتبني عليها إرشاداتها سريعاً.
لسوء الحظ، كان من الصعب تحديد أصول فيروس كورونا البرية، ويرجع ذلك جزئياً إلى انخفاض عدد وتنوع العينات المتاحة للمجتمع العلمي؛ لاسيما من آسيا والمناطق النائية الأخرى.
يمكن لسياسة الحكومات تشجيع حفظ العينات
بدأت حكومة الولايات المتحدة بإيلاء أمن البيانات الجينية المزيد من الأهمية والأولوية حالياً، لكن سبقتها إلى ذلك العديد من الدول. في الواقع، تمتلك العديد من الدول؛ خصوصاً الصين وروسيا، غالبية البيانات الجينية الأميركية في الوقت الحالي، وذلك بسبب ضعف إجراءات الأمن البيولوجي الدولية، بالإضافة إلى الاستثمارات الأجنبية الكبيرة في العلوم الجينية وعلوم الطب الحيوي.
استجابةً لذلك، تعمل سياسات مشاركة البيانات الجينومية في المعاهد الوطنية الصحية على تعزيز أرشفة البيانات الوراثية (أي بيانات حمضي الدنا والرنا) التي تُستخلص من عينات الأنسجة. تُعدّ هذه السياسة خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها تفشل في معالجة متطلبات المحفوظات التي تمثّل العينات؛ أي المادة الخام للعديد من تسلسلات الحمض النووي المستخدمة في بحوث التنوع الحيوي والبحوث الطبية الحيوية. في النهاية، يشكل فقدان العينات الذي لا يمكن إصلاحه مطلقاً خطراً كبيراً على الأمن الوطني والصحة العامة والعلوم.
تتخذ وكالات اتحادية أخرى أيضاً خطوات في الاتجاه الصحيح، ولكن هناك مجال لتحسين هذه الإجراءات؛ على سبيل المثال، تعمل التحديثات الأخيرة لسياسات البيانات الخاصة بهيئة المسح الجيولوجي الأميركية على توسيع مبادئ «فير» لتشمل الأنواع؛ مما يعني أنه يمكن البحث في هذه العينات والوصول إليها، وأن تكون قابلة لإعادة الاستخدام، كما تحمّل هيئة المسح الجيولوجي الأميركية جامع العينة مسؤولية الحفاظ عليها وصيانتها على المدى الطويل. وبالرغم من أن هذه السياسات تنطبق على علماء هيئة المسح الجيولوجي الأميركية، إلا أنها تمثل نموذجاً جيداً لإدارة العينات للمجتمع العلمي بأكمله.
للأسف، تسمح نفس السياسة أيضاً، في بعض الحالات، بتدمير العينات التي جُمعت بدعمٍ فيدرالي إذا اُعتبرت «أنها لم تعد ذات قيمة»، أو «لم يعد لها استخدام محتمل» بالنسبة لهيئة المسح الجيولوجي، لكن بالنظر إلى طبيعة العينات التي تفرض عدم إمكانية الاستعاضة عنها، فإننا نجادل بأن تدميرها نادراً ما يكون له مبرر. بدلاً من ذلك، فإن حفظ العينات في المتاحف الطبيعية بعد انتهاء أي مشروع يتماشى بشكلٍ أفضل مع التفويضات الفيدرالية لضمان النشر المفتوح للبيانات الفيدرالية، ويساعد على الوفاء بمسؤولية إتاحة هذه البيانات للجمهور.
تحديد الأولوية بالنسبة للدوريات العلمية
يُحمّل العلماء أنفسهم مسؤولية ضمان أرشفة العينات بشكل مسؤول -مع صياغة المبادئ التوجيهية الفيدرالية- لتعزيز القدرة على الوصول إلى العلوم الحيوية. في الحقيقة، قد يكون العمل أثناء نشر الأوراق البحثية؛ والذي يُعتبر حجر الزاوية في البحث العملي، هو الوقت المناسب للقيام بذلك.
ما هي البيانات التي تطلب الدوريات العلمية من الباحثين أرشفتها؟
وجد مؤلفو البحث، من خلال مسح متطلبات أرشفة البيانات لأفضل 100 دورية في علم البيئة والتطور والسلوك والأنظمة، أن سياسات بيانات الدوريات العلمية نادراً ما تتناول ما يجب فعله بالعينات المادية بمجرد نشر البحث.
تطلب أكثر من نصف الدوريات العلمية المئة الأعلى تصنيفاً، في مختلف العلوم البيئية والتطور والسلوكيات والنظم، أرشفة دائمة لتسلسلات الحمض النووي، ولكن أقل من 20% منها تطلب إجراءاتٍ مماثلة بالنسبة للعينات. في الواقع، يمكن توليد تسلسلات الحمض النووي دائماً إذا تم الاحتفاظ بالعينات، وهكذا، فإن متطلبات البيانات غير المتسقة؛ التي تعمل بها بعض الدوريات العلمية المتساهلة، تجنّب الباحثين في بعض الأحيان مسؤولية أرشفة العينات من خلال تفضيل إرسال أبحاثهم إليها.
يمكن للعلماء؛ بصفتهم محررين ومراجعين في هذه الدوريات، تشجيع أرشفة العينات بشكلٍ مسؤول أثناء عملية مراجعة الأقران للأوراق البحثية وعند النظر في دعم مقترحات الأبحاث المادي.
ملكية العينات مقابل الإشراف المسؤول عنها
قد تعكس أرشفة العينات غير المتسقة أيضاً النهج الأوسع في التعامل مع العلم؛ والذي أتى قسم كبير منه عبر علماء الطبيعة الأوائل مثل والاس وفون همبولت. في الواقع، هناك ميل مستمر لدى العلماء لامتلاك البيانات أو العينات بدلاً من إدارتها بمسؤولية بسبب المنافسة بينهم؛ مما يعزز في النهاية المخاوف من خسارتها، وكمثالٍ على المنافسة بين العلماء، دفعت المراسلات الشهيرة في القرن التاسع عشر بين تشارلز داروين ووالاس، داروين إلى الإسراع بإصدار كتابه الخاص حول الانتقاء الطبيعي، وما يزال الخلاف حول أول من اكتشف هذه النظرية أولاً قائماً إلى يومنا هذا. في الوقت الحالي، تتمع المتاحف بسياساتٍ وبروتوكلاتٍ مناسبة لتجنّب مثل هذه المشاكل؛ مثل سياسات تأخير إصدار البيانات والحظر المؤقت الذي يسمح للباحثين بإنهاء المشاريع قبل إتاحة بياناتهم للجمهور.
لقد اقترحنا نحن وزملاؤنا مبادئاً توجيهية تهدف إلى تحسين سياسات حفظ العينات، ونوصي بدمج خطط الإشراف على العينات في المتطلبات الحالية لخطط إدارة البيانات؛ وذلك من خلال معاملة العينات كبياناتٍ أولية، كما سيكون للتعاون المبكر وإعداد الميزانية والتخطيط بين الباحثين ومتاحف التاريخ الطبيعي ضرورياً لتوفير مكانٍ لتخزين العينات الجديدة وتقديم الدعم المالي لهذه العملية. سيؤدي تطبيع أرشفة العينات مع المتاحف إلى بناء أساسٍ ثري للموارد الجينية للجيل القادم من العلماء.
هذا المقال محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً