أخيرًا بدأ العلماء يفكون “حبكة” حرير العناكب، فهل نتعلم منها؟

3 دقائق
تغزل الأرملة السوداء بعضاً من أقوى الخيوط بين جميع العناكب، ولهذا قام العلماء بإطلاق حزمة إلكترونات على سائلها الحريري ليكتشفوا مكوناته.

يبدو أن العناكب سبقتنا إلى عصر المواد النانوية بحوالي 300 مليون سنة، فهي تغزل الجزيئات النانوية إلى خيوط تتمتع بقوة شديدة وقدرة تمطط هائلة تفوق قدراتنا التقنية الحالية. ولكن يبدو أننا بدأنا نحاول اللحاق بهذه الكائنات، وذلك عن طريق دراسة أسرارها مع الاستعانة بتقنياتنا الخاصة.

يبدأ حرير العناكب على شكل خليط بقوام الحساء ما بين السائل والهلام، وتقوم العناكب ببثقه إلى الخارج محولة إياه إلى خيوط خارقة القوة بفضل عوامل أخرى من الضغط والحموضة ومواد كيميائية إضافية. ويعلم الباحثون ما هي مكونات السائل وما هو المنتج النهائي، غير أن الأسئلة تكمن في المرحلة الوسطى، فما زالت هناك الكثير من الأمور المبهمة حول طريقة العناكب في تصنيع إحدى أقوى المواد في الطبيعة ضمن درجة حرارة الغرفة الطبيعية وبدون أية آلات معقدة.

ولذلك قام فريق متنوع من أخصائيي الكيمياء العضوية وعلماء المواد باستخدام مجهر إلكتروني فائق التبريد لدراسة غدد الحرير في الأرملة السوداء بدقة غير مسبوقة، وقد نُشر بحثهم في مجلة Proceedings of the National Academy of Sciences مؤخراً، ويؤكد هذا العمل أن بروتينات العنكبوت تتكتل على شكل كرات نانوية الحجم، كما يكشف البحث للمرة الأولى عن وجود بنى على شكل رقاقات قشرية صغيرة ضمن هذه الكرات.

ويأمل الباحثون أن عملهم هذا سيساعد على إنتاج حرير العناكب على نطاق واسع كما ننتج النايلون حالياً، حيث يقول ناثان جيانيشي (أخصائي في كيمياء المواد النانوية في جامعة نورث ويسترن، وهو أحد قادة الفريق) في بيان صحفي: "يمكن أن نقول إن التطبيقات العملية لمادة كهذه هي تطبيقات غير محدودة".

ومن أهم المشاكل التي تواجه المهتمين بالموضوع هي أنه لا أحد يدري بالضبط ماذا تفعل بروتينات "سبيدروين" داخل غدد الحرير في العنكبوت أثناء تحولها من جزيئات إلى خيوط، وقد افترض الباحثون لأكثر من عقد من الزمن أن الأشرطة البروتينية تلتف على نفسها مكونة كريات تعرف باسم المُذَيْلات (المُذيلة أو الأيون الغروي: هو جسيم مكهرب من مادة شبه غروية)؛ وذلك لأنها تحتوي على أجزاء تنجذب إلى الماء وأجزاء نابذة للماء، ولكن لا يوجد دليل مباشر على صحة النظرية، ولا أحد يعرف الشكل الدقيق لهذه المُذيلات.

وقد قام جريجوري هولاند (وهو أخصائي في الكيمياء العضوية في جامعة سان دييجو الحكومية) بتقديم الدليل القاطع الأول على أن بروتينات السبيدروين تترابط معاً. وبعد دراسة كيفية تحركها ضمن السوائل في ظروف مختلفة، استنتج هولاند أن عرض هذه الجزيئات يساوي بضعة مئات من النانومترات، وهو رقم أكبر بكثير من أن يكون حجم بروتينات منفردة. وقد شعر هولاند أن هذه النتائج واعدة، ولكنه لم يدرك أن من الممكن له أن يحقق المزيد حتى التقى بجيانيشي بالصدفة في أحد المؤتمرات، ويستذكر هولاند ما حدث قائلاً: "بدأ ناثان يتحدث، وقلت له: كم أتمنى لو نستطيع أن نحصل على صور توضِّح شكلها".

ويعمل جيانيشي على المجاهر الإلكترونية فائقة التبريد بشكل اختصاصي، وهي أدوات تأخذ صوراً للأجسام الصغيرة للغاية، التي لا تستطيع المجاهر العادية تصويرها، وذلك بإطلاق حزمة من الإلكترونات عبر عينة رقيقة للغاية بدرجات حرارة فائقة الانخفاض. وقد جرب آخرون هذا الأسلوب على سائل الحرير عند العناكب من قبل، ولكن لم يتمكن أحد من إيجاد طريقة لتحضير العينة دون تخريب البنى البروتينية الحساسة، حيث يقول هولاند: "إن الأنفاس وحدها كفيلة بتغييرها، وإذا وضعت إبرة فيها وسحبتها، فستسحب معها خيطاً بشكل فوري".

إن القوى التي يؤثر بها الممص (أداة مخبرية لنقل العينات السائلة) العادي على العينة تسبب انهيار بروتينات السبيدروين متحولةً إلى ألياف خيطية، ولهذا قام الفريق بتشريح عناكب الأرملة السوداء بعناية، وتحضير قطيرات من سائل الحرير ببطء وهدوء، وذلك باستخدام عدة أدوات صُممت لهذا الغرض خاصة. وفي النهاية تمكَّنوا من استخلاص عينات يعتقدون أنهم حافظوا فيها على البنية الطبيعية للجزيئات.

وقام الفريق بعد ذلك بتشكيل صور طبقية للعينات للحصول على أول نظرة على الشكل الحقيقي لهذه الحزم من البروتينات الحريرية. وكانت الأشكال الناتجة أبعد ما تكون عن الكرات البسيطة، فقد اكتشف الفريق أن المذيلات كانت ممتلئة بالمئات من الحزم الصغيرة، التي يصفها جيانيشي بأنها "رقاقات قشرية" أو "أقراص"، ويوجد في كل منها مجموعة متشابكة من ألياف السبيدروين.

ويعتقد الباحثون أن تطبيق ضغطٍ مناسب عليها يؤدي إلى امتداد هذه الرقاقات متحولة إلى ألياف تتجمع لتشكل الخيط الحريري، ويأملون في أن هذا النموذج سيسمح في النهاية بتعديل الوصفات والأساليب المستخدمة لإنتاج حرير العناكب الاصطناعي، ومشابكة السبيدروين بالطريقة الصحيحة.

 

على اليسار: بروتين سبيدروين منفرد يتجمع على شكل "رقاقة" مع بروتينات أخرى. في الوسط: مئات من هذه الرقاقات تتجمع لتشكيل بنية المذيلات. على اليمين: تؤدي قوى القص إلى تمديد الرقاقات إلى ألياف.
مصدر الصورة: تقدمة من جريجوري هولاند

ومن الباحثين الذين يعملون على محاكاة حرير العناكب آنا رايزينج ويان جوهانسون من الجامعة السويدية للعلوم الزراعية في أوبسالا في السويد، وهما يترأسان فريقاً دولياً تمكن من إنتاج أقوى حرير اصطناعي في بدايات السنة الماضية. وقد أشاد الباحثان بالدراسة الجديدة لأنها وسَّعت من النظرية الأساسية حول البروتينات الحريرية، ولكنهما يشيران إلى أن الكثير من التفاصيل ما زالت غير معروفة، كما قالا في رسالة بالبريد الإلكتروني: "من المفضل أن نرى ترتيب السبيدروين على مستوى الذرات". وقد قامت أبحاث سابقة بدراسة نهايات البروتين، ولكن السلسلة الوسطية ما تزال منطقة لم يقترب منها أحد بعد.

كما يقول الباحثان إن المجاهر الإلكترونية فائقة التبريد ستكون أداة هامة لملء بعض الفراغات في خريطة البروتينات الحريرية، وهي نتيجة أثارت حماس جيانيشي وهولاند أيضاً. ويعتبر حرير الأرملة السوداء من أقوى أنواع الحرير لدى العناكب، ويخطط الباحثون لدراسة أنواع أخرى أيضاً لمقارنة الأنواع المختلفة من الحرير مع الأشكال المختلفة من حزم البروتينات.

المحتوى محمي