لطالما تعالت النداءات حول آثار التغير المناخي على الحياة البحرية؛ فقد بدأ المرجان يفقد لونه مع ارتفاع حرارة المحيطات، كما أن ارتفاع مستويات ثنائي أكسيد الكربون يزيد من حموضة مياه البحر، وهو ما يتسبب في تآكل أصداف الكائنات البحرية وهياكلها، وبسبب ارتفاع درجات الحرارة، بدأت الأسماك تهاجر نحو مياه أكثر برودة، بل إنها بدأت تتقلص حجماً.
وقد بدأ يؤثر التغير المناخي الآن على حاسة الشم لدى الأسماك، وستتفاقم هذه الظاهرة -وفقاً لبحث جديد- خلال السنوات القادمة، ما لم يتم التصدي للاحترار العالمي.
وحاسة الشم ضرورية للغاية عند الأسماك، وذلك للبحث عن الطعام، واكتشاف الأخطار الوشيكة، وتفادي المفترسات، والعثور على بيئات آمنة ومناطق جيدة لوضع البيض، بل حتى للتعرف على بعضها البعض.
ولهذا، فإن فقدان الشم قد يهدد حياة هذه الأسماك، وإذا حدث هذا فستحدث مشاكل جمة لصناعة صيد السمك، وللسياحة، والأهم من كل هذا ما سيحدث للنظام الغذائي العالمي؛ نظراً لاعتماد الكثير من الشعوب على الأسماك للتغذية، بما فيها الشعوب الأكثر فقراً.
تقول كوسيما بورتيوس )باحثة في جامعة إكسيتير، ومؤلفة البحث الذي نشر في مجلة Nature Climate Change): "قد تحمل مستويات ثنائي أكسيد الكربون في المستقبل تأثيرات سلبية كبيرة على حاسة الشم لدى الأسماك، مما قد يؤثر على تعداد الأسماك وعلى أنظمة بيئية كاملة؛ لذا يجب علينا أن نخفض من انبعاثات الكربون فورياً؛ حتى نتفادي وقوع هذا الأمر قبل أن يفوت الأوان".
وثنائي أكسيد الكربون يتحد مع مياه البحر لتوليد حمض الكربونيك، مما يزيد من حموضة المياه، وقد ارتفعت نسبة ثنائي أكسيد الكربون في المحيطات منذ انطلاق الثورة الصناعية بنسبة 43%، ويتوقع العلماء أن تصل إلى 2.5 ضعف النسبة الحالية مع نهاية هذا القرن.
ويعتقد الخبراء أن حوالي نصف ثنائي أكسيد الكربون بشري المنشأ (أي الانبعاثات الناتجة عن النشاطات البشرية، مثل حرق الوقود الأحفوري)، وانتهى به المطاف في المحيطات بمرور الزمن، ما أدى إلى ارتفاع حموضة مياه البحر.
وقد عملت بورتيوس بالتعاون مع علماء من مركز العلوم البحرية في فارو في البرتغال، ومركز البيئة والثروات السمكية والاستزراع المائي في المملكة المتحدة، وقامت في إطار هذا العمل بمقارنة سلوكيات سمك القاروس البحري اليافع عند مستويات ثنائي أكسيد الكربون الشائعة حالياً في المحيطات، مع نفس السلوكيات المتوقعة في نهاية القرن.
اكتشف الباحثون أن القاروس المعرض لبيئة أكثر حامضية كان أقل نشاطاً في السباحة، كما كانت ردة فعله أضعف عند مصادفة رائحة مفترس (والتي قُدِّمت له على شكل مرارة سمك الهامور المخففة بشكل كبير بالماء)، وأيضاً لاحظ الباحثون أن القاروس كان يصاب بالجمود بشكل متكرر، وهو ما يدل على التوتر، كما تقول بورتيوس: "لقد وجدت أن هذه الأسماك تصبح أسوأ حالاً كلما بقيت لفترة أطول في بيئة ذات نسبة مرتفعة من ثنائي أوكسيد الكربون".
وقام العلماء أيضاً بقياس قدرة الأسماك على اكتشاف روائح معينة في مستويات مختلفة من الحموضة عن طريق تسجيل نشاط النظام العصبي لديها، تقول بورتيوس: "قمت بتسجيل استجابة العصب الشمي عن طريق قياس نشاطه الكهربائي مع روائح مختلفة، في مياه تمر فوق أنف السمكة؛ في مياه بحرية عادية، وفي مياه بحرية ذات مستوى مرتفع من ثنائي أوكسيد الكربون. وأما الروائح المستخدمة في الاختبار فقد كانت تتعلق بالبحث عن الطعام -حموض أمينية- وبالتعرف على أسماك أخرى من نفس النوع، بما في ذلك حموض المرارة، والمرارة، وسوائل الأحشاء... إلخ، وبتركيزات مختلفة، وبمستويات مشابهة لما يوجد في الطبيعة".
ووجد الباحثون أن مياه البحر التي تزايدت حموضتها بفعل المستويات المتوقعة في نهاية القرن من ثنائي أكسيد الكربون -إذا لم يتوقف الاحترار العالمي- ستؤدي إلى إضعاف حاسة الشم لدى القاروس البحري إلى النصف، مقارنةً مع المستويات الحالية؛ تقول بورتيوس: "إن القدرة على اكتشاف الروائح والاستجابة لها -في حالتي الطعام أو الأوضاع الخطرة- كانت أكثر تأثراً مما في حالة الروائح الأخرى، ونعتقد أن هذا عائد إلى تأثير المياه الحامضية على طريقة ارتباط جزيئات الروائح بالمستقبلات الشمية في أنف السمكة؛ بحيث يخفض من قدرتها على تمييز هذه المنبهات الهامة".
ولم يقارن العلماء بين تأثير مستويات الحموضة الحالية في المحيطات وبين مستوياتها في فترة ما قبل العصر الصناعي، على الرغم من أنهم يخططون لفعل هذا في بحث لاحق؛ تقول بورتيوس: "من الممكن أن القاروس البحري بدأ الآن في التأثر بارتفاع حموضة المحيطات".
درس الباحثون أيضاً تأثير ارتفاع مستويات ثنائي أكسيد الكربون والحموضة على الجينات المتعلقة بالأنف والدماغ في القاروس البحري، ووجدوا أنها تغيرت، ولكن ليس إلى الأفضل بل إنها ساءت بدلاً من التكيُّف، كما تقول بورتيوس: "وقد أُجريَت تجربة التعبير الجيني (وهي تحول المعلومات الجينية إلى منتجات وظيفية) لدراسة قدرة هذه الأسماك على تعويض فقدان حاسة الشم على امتداد فترة قصيرة من الزمن، وليس لعدة أجيال"، وقد شرحت ذلك بقولها: "إن الحيوانات لديها القدرة على التكيف مع الظروف العصيبة عن طريق إنتاج المزيد من البروتينات أو بروتينات مختلفة تعمل بشكل أفضل في ظروف مختلفة".
ويمكن للباحثين تحديد النتيجة بفحص الجينات المتغيرة، أو المتباينة ما بين الحيوانات المعرضة لظروف مختلفة (مثل مستويات عادية ومرتفعة من ثنائي أكسيد الكربون)، ووفقاً لبورتيوس: "من الطرق الممكنة لتحسين حاسة الشم زيادة عدد المستقبِلات التي تتحسس هذه الروائح من أجل زيادة فرصة التقاط رائحة معينة؛ أي زيادة التعبير الجيني لهذه المستقبلات. وتوجد طريقة أخرى، وهي إيجاد مستقبلات مختلفة بعض الشيء؛ بحيث تعمل بشكل أفضل في ظروف الحموضة المرتفعة، غير أننا لم نعثر على أي دليل على حدوث هذا، بل اكتشفنا في الواقع أن الأسماك كانت تشكل عدداً أقل من المستقبلات، ما يزيد من صعوبة الشم لديها".
وتتابع بورتيوس قائلة: "لقد اكتشفنا تناقصاً في الجينات الفعالة، مما يشير إلى أن هذه الخلايا كانت أقل قابلية للإثارة، وبالتالي أقل استجابة للروائح في البيئة المحيطة، وهذا يعني أن الأسماك فقدت جزءاً من حاسة الشم لديها، وقد أدت التغيرات في خلاياها إلى تفاقم المشكلة بدلاً من تعويض هذا النقص، وهو ما يتوافق مع ملاحظاتنا حول سلوكها".
وقد اختار الفريق سمك القاروس البحري الأوروبي موضوعاً للدراسة بسبب أهميته الاقتصادية؛ سواء للاستهلاك الغذائي أو الصيد الترفيهي، وذلك وفقاً لبورتيوس، ولكنها تقول: "نعتقد أن القدرة على شم الروائح هي نفسها لدى معظم أنواع الأسماك، إن لم تكن جميعها، وبالتالي فإن النتائج المتعلقة بالقاروس البحري تنطبق بشكل شبه مؤكد على جميع أنواع الأسماك، وربما اللافقاريات أيضاً؛ مثل السلطعون والكركند، وبالتالي فإن جميع الأنواع الهامة تجارياً ستتأثر بشكل مشابه على الأرجح؛ مثل السلمون، والقد، والبلايس، والتربوت، والحدوق... إلخ".
ويعتبر هذا البحث مهماً، حيث إن 20% من البروتين الذي يستهلكه 3 مليار شخص يوجد في الطعام البحري، ويتألف نصف هذا الطعام البحري تقريباً من الأسماك التي يتم اصطيادها في البحر المفتوح، تقول بورتيوس: "ولهذا، فإن ازدياد نسبة ثنائي أكسيد الكربون في المحيطات قد تؤثر على جميع أنواع الأسماك، بما فيها الأنواع التي يعتمد عليها الكثير من البشر للغذاء والمعيشة".