يتذكر الكثيرون شتاء 2014-2015، ذلك الشتاء الذي فقدت فيه مدينة يوسطن صوابها، وجذبت منطقة نيو إنجلاند - وهي منطقة أصبح اسمها مرادفاً للصقيع- انتباه الأميركيين، حيث استقبلت مستويات هائلة من الثلوج. وقد تخطت المدينة الرقم القياسي السابق لها في كمية هطول الثلوج وهو 273 سنتيمتراً، والمسجل في موسم 1995-1996 بأكثر من 2 سنتيمتر، بينما يبلغ متوسط هطول الثلوج حوالي 110 سنتيمترات.
ولكن عام 2015 لم يشهد هطول حاد للثلوج وحسب، بل كان شديد البرودة بشكل استثنائي أيضاً. فقد شهدت بوسطن أطول مدة لدرجات حرارة أقل من -40 درجة مئوية منذ بدء حفظ السجلات عام 1872. ولم يكن هذا حال بوسطن وحدها، فقد لاحظ الذين يعيشون ضمن نطاق خطوط العرض الشمالية الوسطى أن فصول الشتاء الدافئة غير المعهودة، كتلك التي حدثت في السنة التي تلتها 2015-2016، قد تخللتها فصول شتاء باردة غير معهودة. وقد وجدت دراسة نشرت في دورية الأبحاث الجيوفيزيائية عام 2016، أن فصول الشتاء شديدة البرودة أصبحت أكثر شيوعاً في الولايات المتحدة. ويمكن شرح ذلك من خلال دراسة سابقة صدرت في نشرة جمعية الأرصاد الجوية الأميركية.
من المثير للسخرية، أن اللوم في ذلك يقع على الاحترار في القطب الشمالي. فعندما تزداد حرارة القطب الشمالي بسبب تغير المناخ، تحدث تحولات في ما يسمى الدوامة القطبية - وهي مساحة كبيرة من الضغط المنخفض والهواء البارد تحيط بقطبي الأرض.
والدراسة الجديدة ليست الأولى التي تشير إلى وجود هذا الرابط، فقد أظهرت تقارير سابقة إلى أن الاحترار في القطب الشمالي يمكن أن يؤدي بشكل متناقض إلى فصول شتاء أكثر برودة، لكن هذه الدراسة تسلط الضوء على كيفية حدوث ذلك.
وجد الباحثون أن تدفق الهواء عكس عقارب الساعة، والذي يحدد الدوامة القطبية، يساعد عادة على إبقاء الهواء البارد بالقرب من القطبين. ولكن عندما يذوب الجليد البحري شمال إسكندنافيا وروسيا، فإن المحيطات الخالية من الجليد الآن تطلق المزيد من الحرارة الدافئة، والتي يمكن أن ترتفع إلى 28 كيلومتراً في طبقة الستراتوسفير. وهذا يضعف دوران الغلاف الجوي عكس اتجاه عقارب الساعة، مما يسمح للمزيد من الهواء البارد بالوصول إلى الجنوب، وهو ما يؤدي إلى تلك الشتاءات الباردة غير المعهودة. وقد وجد مؤلفو الدراسة أن السبب في وقوع الكثير من فصول الشتاء الأكثر برودة على مدى السنوات الأربعين الماضية قد يعود إلى إضعاف الدوامة القطبية.
وقد توصل الباحثون إلى هذا الاستنتاج بتحليل بيانات سرعة رياح الغلاف الجوي في شهري يناير وفبراير في منطقة فوق خط عرض 60 شمال (أو شمال أوسلو تقريباً) بين عامي 1979 و 2015، هذه هي المنطقة التي تحدث فيها الدوامة القطبية عادة. وقاموا بسبر البيانات لمعرفة أي فصول الشتاء حدثت فيها الدوامة القطبية الأشد والدوامة القطبية الأضعف، ثم قاموا بمقارنة ذلك بمتوسط درجة حرارة السطح، لتحديد ما إذا كان هناك رابطاً بينهما وهو ما ثبت بالفعل. فعندما تكون الدوامة القطبية أضعف، فإن خطوط العرض السفلى (مثل الولايات المتحدة وكندا) تميل إلى مواجهة درجات حرارة شتاء أكثر برودة.
ثم حاول الباحثون معرفة السبب في تباين قوة الدوامة القطبية، وهو ما حدث عندما وجدوا علاقة بين فقدان الجليد البحري وتحولات دوران الغلاف الجوي.
وليست الولايات المتحدة وحدها من يعاني من هذا الهبوط الدوري في درجات حرارة الشتاء، ففي الواقع يكون هذا التأثير أشد على آسيا وأوروبا. ففي عام 2012، تجمد الكثير من الروس حتى الموت في أبرد فصل شتاء خلال أكثر من 70 عاماً، حيث انخفضت درجات الحرارة إلى -50 درجة مئوية. وفي الشتاء الماضي، غُمرت العاصمة السويدية ستوكهولم تحت حوالي 40 سنتيمتراً من الثلوج، حيث كانت الجبهة الباردة تجول في المنطقة. لقد كانت أكبر كمية من الثلوج تتساقط في شهر نوفمبر خلال 111 عاماً منذ بداية حفظ السجلات.
يقول جودا كوهين، المؤلف المشارك في الدراسة، من قسم أبحاث البيئة والغلاف الجوي التابع لمعهد ماساتشوستس التقني في تصريح له: "إن نتائجنا الأخيرة لا تؤكد فقط الصلة بين الدوامة القطبية الضعيفة وطقس الشتاء الشديد، ولكن أيضاً مدى ارتباط انخفاص الحرارة الملاحظ في مناطق مثل روسيا وإسكندنافيا بإضعاف الدوامة القطبية. إن بعض أنماط الطقس الشديد في تزايد في ظروف التغير المناخي، وتضيف دراستنا دليلاً آخر على أن هذا قد يتضمن نوبات البرد، والتي تشكل مفاجأة غير سارة لهذه المناطق".
بعبارة أخرى، ورغم اعتقاد الكثيرين بأن التغير المناخي هو احتباس حراري، فإن الواقع أكثر تعقيداً من ذلك. يرسل مناخ الاحترار تموجات التغير المناخي عبر نظام الطقس بأكمله، وهو ما يعني أحياناً حدوث بعض فصول الشتاء شديدة البرودة، فالمشكلة الكبيرة ليست في البرد، ولكن في تقلب الطقس. وبسبب التغير المناخي، فإننا نتأرجح الآن بين فصول شتاء دافئة جداً تجعل منتجعات التزلج تغلق قبل الأوان، وبين فصول شتاء شديدة البرودة ومثلجة تجعل محبي التزلج لا يصلون حتى إلى منحدرات التزلج.