"لقد كان طموحنا دائماً أن ندخل إلى أعماق الفضاء الأبيض، وها نحن اليوم قد وصلنا إلى الفضاء الذي لن يكون فارغاً بعد اليوم". هذا ما قاله مستكشف القطب الجنوبي الكابتن سكوت وهو يعبر خط عرض 80 في القارة القطبية الجنوبية لأول مرة عام 1902. والآن وبعد أكثر من قرن من الزمن، ما زال قاع المحيط حول القارة القطبية الجنوبية يبدو "فضاء أبيض" بعيداً عن متناول الغواصين، ولم يتم رسم خرائطه بشكل مفصل إلا بشكل جزئي بواسطة أجهزة الأمواج الصوتية على السفن، ونادراً ما يتم مسحه بواسطة المركبات الروبوتية.
لذلك فقد انتهزت الفرصة للانضمام إلى فريق من هيئة الإذاعة البريطانية في رحلة إلى شبه القارة القطبية الجنوبية ضمن عمل البرنامج الوثائقي "الكوكب الأزرق 2"، لمساعدتهم كدليل علمي. وبفضل طاقم السفينة البحثية ألوسيا، غصنا بالغواصات الصغيرة إلى عمق كيلومتر واحد في القارة القطبية الجنوبية للمرة الأولى. وفي حين أننا لم نواجه أي مشاكل كالمصاعب الجسدية التي تحمّلها مستكشفو القطب الأوائل على الأرض، فإن جولات الغطس تلك أتاحت لنا الفرصة للاطلاع على بعض العلوم الفريدة من نوعها.
إن المحيط العميق حول القارة القطبية الجنوبية هو مكان خاص لعدة أسباب. ولأن القارة القطبية الجنوبية تتعرض للضغط بسبب وزن صفائحها الجليدية، فإن الجرف القاري المغمور أعمق من المعتاد، حيث يتراوح عمقه بين 500 و 600 متر عند حافته، بدلاً من عمق 100-200 متر. كما أنه مقطوع بقنوات أكثر عمقاً بالقرب من الشاطئ، بعضها يغوص لمسافة أكثر من كيلومتر واحد، وقد تمت إزالتها بالصفائح الجليدية الأكبر في الماضي. وعلى الرغم من أن القارة نفسها بعيدة، فبإمكاننا الوصول إلى البحر العميق قرب الشاطئ. وكان من المفيد لنا الغوص في الغواصات الصغيرة، على الرغم من حاجتنا إلى تفادي جبال الجليد.
توجد هنا بوابة إلى أعماق الحياة البحرية أيضاً. وتوجد بعض حيوانات أعماق البحار في أعماق أكثر ضحالة بكثير من المعتاد حول القارة القطبية الجنوبية، وذلك لأن درجة حرارة المياه بالقرب من السطح تشبه درجات الحرارة الباردة في أماكن أخرى في أعماق المحيطات. وفي الماضي، انتشر أسلاف حيوانات أعماق البحار عبر المحيطات العميقة من القطب الجنوبي، عبر هذه البوابة الباردة بين الأعماق الضحلة والعميقة.
كان أحد الحيوانات المفضلة عندي والتي رأيناها أثناء الغطس أخطبوط جرانيليدون القطبي الجنوبي، والذي جاء أسلافه من الأعماق الضحلة قبل حوالي 15 مليون سنة، عندما انخفضت درجة حرارة المياه السطحية إلى نفس درجة حرارة الأعماق. وقد انتشرت سلالاته بعد ذلك عبر الأعماق بشكل كبير، ما أدى إلى انتشار أنواع مختلفة ومتعددة من أخطبوطات أعماق البحار الموجودة اليوم حول العالم. بينما بقي بعضها في مكانه ليشكل الأنواع التي نراها اليوم.
ويعتبر المحيط حول القارة القطبية الجنوبية بمثابة رئة للأعماق. فالكثير من الأوكسجين الذي يمنح الحياة للمياه العميقة حول العالم يبدأ رحلته من الغلاف الجوي هنا. وعندما تتجمد المياه المالحة حول القارة القطبية الجنوبية في الشتاء، تخلف وراءها مياهاً باردة جداً ومالحة تغوض وتعبر إلى أعماق المحيطات الأطلسي والهندي والهادي. وحتى أعمق المياه في المحيط في قاع خندق ماريانا على عمق 14 ألف كيلومتر تبدأ من هنا. ومع انتقال المياه العميقة من القارة القطبية الجنوبية، تحمل الأوكسيجين المنحل من الغلاف الجوي عند السطح. ولذلك فإن القارة القطبية الجنوبية هي المصدر الذي تتنفس منه المحيطات، ومياهها هي من بين أكثر المياه غنى بالأوكسجين على كوكب الأرض.
ومن الحيوانات المفضلة لدي أيضاً، والتي رأيناها أثناء الغطس، والتي تستفيد من هذه المياه الغنية بالأوكسجين عنكبوت البحر العملاق، والذي يصل طول أرجله إلى 40 سنتيمتراً. ويفتقد عنكبوت البحر إلى الجهاز التنفسي، الأمر الذي يحد من حجمه عادةً، ولكنه يستطيع النمو إلى حجم أكبر بكثير في المياه في الظروف الغنية بالأوكسجين هنا.
الأنظمة البيئية القديمة للمحيط
إن الغوص في أعماق القارة القطبية الجنوبية هو أيضاً رحلة في الزمن إلى الوراء، تعطينا لمحة عن شكل الأنظمة البيئية القديمة للمحيط. كانت الأسماك مسيطرة كحيوانات مفترسة في معظم الأنظمة البيئية البحرية الموجودة اليوم، ولكن أنوعاً قليلة من الأسماك تستطيع التكيف مع الظروف التي تسود فيها درجة حرارة 1.5 تحت الصفر حيث كنا نغوص. ومع ذلك، فإن سمكة التنين الجليدية، واسمها العلمي كرويدراكو أنتاركتيكوس، هي استثناء جدير بالذكر، وهي من الحيوانات المفضلة عندي أيضاً. وهي تتميز ببروتيناتها المضادة للتجمد والتي تمنع الدم من التجمد. كما أن دمها صافٍ لا يحتوي على أي هيموجلوبين حامل للأوكسجين والذي يعطي الدم البشري لونه الأحمر. وفي المياه الباردة، ينحل ما يكفي من الأوكسجين في دم السمكة ليحافظ على حياتها.
ولكن عدد الأسماك التي تتميز بقدرتها على التكيف كسمكة التنين الجليدية قليل، لذلك فقد استطاعت اللافقاريات بتنوعها أن تسيطر كحيوانات مفترسة في أعماق المحيط هنا، تماماً كما كانت تفعل على امتداد المحيط قبل 350 مليون عام.
أما حيواني المفضل الأخير في رحلة الغوص فهو نجم البحر ذو التيجان الشوكية، وهو قريب لنجم البحر المعروف ذي الأذرع الخمسة. وقد أطلق عليه الغواصون لقب "نجم الموت" أثناء مراقبة سلوكه. فهو يملك عدداً كبيراً من الأذرع التي تصل إلى خمسين ذراعاً، وينمو ليصل إلى حجم أكبر من طبق الطعام. وهو يستخدم هذه الأذرع كصنارة صيد، ترفعها من قاع البحر لتتعلّق بسمك الكريل العابر، بفضل الكماشات الدقيقة على جلدها والتي تلتقط بخفة أي شيء يمر بقربها. وبخلاف الأنواع الأخرى من نجم البحر، فإن هذا النوع يستطيع تلويح أذرعه لاصطياد الفريسة بسبب القلة النسبية لأعداد الأسماك المفترسة التي تتغذى عليه.
وعموماً، فإن رؤية قاع البحار العميقة في القارة القطبية الجنوبية عن قرب من غواصتنا الصغيرة يجب أن تساعدنا على فهم الطريقة التي تشكل فيها "الحجارة المتساقطة" نمط الحياة هنا. وهذه "الحجارة المتساقطة" هي صخور بحجم سيارة تسقط من جبال الجليد العابرة. وهي توفر جزراً للمواطن الصخرية للأنواع المرشّحة للطعام التي لا تعرف الوحل الناعم الموجود في قاع البحر القطبي الجنوبي. ولكن مكان استقرار الحجارة المتساقطة يعتمد على التضاريس تحت سطح البحر. عندما كنا نراها أثناء غوصنا، كانت تنزلق نحو القاع عمودياً باتجاه المنحدرات تحت سطح البحر، لتخرّب الحياة البحرية. ولكن إذا كنت في قاع أحد الوديان، ثم تساقطت فوقه الكثير من الحجارة المتساقطة، فإن هذا سيعطي دفعة كبيرة للتنوع الحيوي المحلي. من الصعب معرفة نمط الحياة من عينات مجمعة من شبكات صيد في الماضي. ولذلك فإن أولى جولاتنا بغواصتنا الصغيرة لعمق كيلومتر واحد يجب أن تساعد في ألا يكون ذلك "الفضاء الأبيض" أبيض بعد الآن.