يستهلك القطاع الزراعي وحده حول العالم وفقاً لإحصائيات البنك الدولي حوالي 70% من المياه العذبة التي يمكن الوصول إليها على كوكب الأرض؛ حيث تعد هذه النسبة أكثر من ضعف مثيلتها في الصناعة (23%)، والاستخدام الحضري (8%)، ويُهدر 60% من تلك المياه بواقع 1500 تريليون لتر سنوياً. أما بحسب وكالة حماية البيئة الأميركية، فيمكن أن تؤدي التسريبات المنزلية إلى إهدار أكثر من تريليون غالون من المياه سنوياً في الولايات المتحدة وحدها. ووفقاً للأمم المتحدة، فمن المتوقع أن يواجه ثلثا سكان العالم ندرةً في المياه بحلول عام 2025. كل هذه أرقام دفعات السلطات والمعنيين حول العالم للتوقف قليلاً والتفكير في كيفية إدارتنا لأهم الموارد الحيوية لدينا، وعليه؛ ظهر مصطلح «الاستدامة المائية».
يُقصد بمفهوم الاستدامة المائية أن تكون الدولة مكتفيةً اكتفاءً ذاتياً من المياه؛ أي ضمان وجود ما يكفي من المياه لتلبية الاحتياجات اليومية المتعددة - من الزراعة إلى الصناعة والبنية التحتية، وهذا يعني أيضاً أن إمدادات المياه ستظل متّسقة على الرغم من تأثيرات تغير المناخ؛ مثل نقص هطول الأمطار والجفاف، أو هطول الأمطار الغزيرة والفيضانات. تعني المياه المستدامة توازن ومطابقة العرض والطلب على المخزون المائي، وأن تكون عمليات توصيل المياه فعالةً وناجعةً قدر الإمكان. فيما يلي كل ما تحتاج لمعرفته حول الاستدامة المائية.
أساسيات الاستدامة المائية
تعني الإدارة المستدامة للمياه القدرة على تلبية احتياجات المياه في الوقت الحاضر دون المساس بقدرة أو موارد الأجيال القادمة على فعل الشيء نفسه. يتطلب تحقيق الإدارة المستدامة للمياه اتباع نهج متعدد التخصصات وشامل تتم من خلاله معالجة القضايا البيئية والاقتصادية والجمالية والمناظر الطبيعية والمجتمعية والثقافية.
إن وجود مياه مستدامة يعني تزويد كل شخص على هذا الكوكب بإمكانية وصول ميسورة التكلفة إلى 20 إلى 50 لتراً من المياه يومياً لاستدامة الحياة على المستوى العالمي. يأتي ذلك بعد اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بالحق في مياه الشرب الآمنة والنظيفة والصرف الصحي كحق من حقوق الإنسان.
كما تعني استدامة المياه أيضاً الإدارة الفعالة والشاملة لموارد المياه التي يتزايد الطلب عليها يومياً؛ مما يستوجب صرامةً وجهداً أكبر في إدارتها. أما بالنسبة لمرافق المياه، فيمكن أن يعني ذلك التخطيط الفعال لأنظمة المياه والصرف الصحي لإدارة عملياتها وبنيتها التحتية وضمان استدامة المجتمعات التي تخدمها؛ وفقاً لوكالة حماية البيئة في الولايات المتحدة.
تختلف مستويات استدامة المياه أيضاً بين المرافق؛ إذ تقوم بعض المرافق والمجتمعات بدمج اعتبارات الاستدامة في عمليات التخطيط العامة؛ ولكنها تبحث عن طرق لتحسين الجهود الحالية وصقلها. وقد يختار البعض الآخر التركيز على الكيفية التي يمكن أن تساعد بها هذه الاعتبارات في تلبية المتطلبات التنظيمية أو الخدمات الحالية من حيث التكلفة والفعالية.
حلول الاستدامة المائية
يجب أن توفر أنظمة المياه المستدامة كمية مياه مناسبةً ونوعية مياه مناسبةً لحاجة معينة، دون المساس بالقدرة المستقبلية على توفير هذه القدرة والجودة؛ وفقاً لجمعية «الرابطة الدولية للمياه» التي تؤكد على أن: "أنظمة المياه في مجال التنمية المستدامة قد لا تتضمن حرفياً استخدام المياه؛ ولكنها تشمل الأنظمة التي كان استخدام المياه فيها مطلوباً بشكلٍ تقليدي. ومن الأمثلة على ذلك المراحيض الخالية من الماء وغسيل السيارات دون ماء؛ والتي يساعد استخدامها في التخفيف من الإجهاد المائي وتأمين إمدادات مياه مستدامة".
تتناول القائمة التالية من الجمعية ذاتها كيفية استخدام مصادر المياه المختلفة على نحوٍ مستدام:
المياه السطحية
تتوزع المياه السطحية بشكلٍ غير متساوٍ حول العالم؛ وهي محدودة من حيث التوزيع الجغرافي، ومع ذلك فهي تتعرض للتلوث نتيجة للأنشطة المختلفة، لذا فإن هذه المياه قد تصبح غير صالحة للشرب دون معالجة. وفي ظل ذلك يمكن أن توفر السدود إمدادات مياهٍ مستدامة؛ حيث يمكن استخدامها لتوليد الطاقة والري والوقاية من الفيضانات وتحويل المياه والملاحة؛ إلا أن مشاريع السدود واسعة النطاق قد تشكّل تحدياتٍ أمام الاستدامة. من هذه التحديات: الآثار البيئية السلبية على موائل الحياة البرية، وهجرة الأسماك، وتدفق المياه والجودة، والآثار الاجتماعية والاقتصادية، لذلك يجب إجراء تقييم تأثيرها قبل اعتمادها كحلٍّ مستدام.
المياه الجوفية
تشكل المياه الجوفية أكثر من 50% من المياه العذبة العالمية، وهي ضرورية لمياه الشرب، فهي من الممكن أن تكون مصدراً مستداماً للمياه، شرط الحفاظ على كمية المياه التي تدخل وتخرج وتخزن في النظام. وفي هذا الصدد تقول الرابطة الدولية للمياه إن الاستخدام غير المستدام للمياه الجوفية يؤدي إلى انخفاض مستوى المياه، وتقليل تدفق المجاري المائية وانخفاض جودة المياه فيها؛ مما يؤثر بشكلٍ مباشر على المجتمعات المحلية.
المياه المُحلّاة
في بعض الدول التي تفتقر إلى المياه العذبة، وفرت تحلية المياه إمدادات مياه كافية لسنواتٍ عديدة. ومع ذلك، فإن ارتفاع الطلب على الطاقة الحرارية في سبيل صناعة المياه المحلّاة قد يحدّ من حل تحلية المياه كحلّ مستدام، ووفقاً للرابطة الدولية للمياه، فيمكن تحسين استدامة تحلية المياه إذا اقترنت باستخدام الطاقة المتجددة. كمثالٍ على ذلك: تمت التوصية بتحلية المياه بالطاقة الشمسية اللامركزية كوسيلة لتوفير مياه أكثر استدامةً لليونان؛ التي تتألف من 6000 جزيرة.
المياه المعالَجة
يمكن أيضاً أن تكون المياه المعالَجة، أو المستصلَحة، مصدراً مستداماً لإمدادات المياه، ويمكن أن تخفف الضغط على موارد المياه الأولية مثل المياه السطحية والجوفية؛ إذ يجب معالجة المياه المستصلحة لتوفير جودة مناسبة اعتماداً على الاستخدام المقرر لها - على سبيل المثال للري أو للاستخدام الصناعي؛ حيث يختلف مستوى إعادة استخدام المياه على مستوى العالم؛ لكن تواصل دول مثل إسبانيا والصين ريادتها في إعادة استخدام المياه.
استراتيجيات إدارة المياه المستدامة
تضع الحكومات الإقليمية والوطنية استراتيجيات المياه المستدامة على تنوعها اعتماداً على مجموعة من العوامل؛ منها: نضج البنية التحتية للمياه، وتأثير ومخاطر تغير المناخ، ومستوى الطموح الحكومي، والتنظيم والوصول إلى التمويل، إلى جانب غير ذلك من الأمور الأخرى. وهناك العديد من دراسات الحالة لنماذج تم تطوير استراتيجيات الإدارة المستدامة للمياه فيها بقيادة الحكومة، مع مراعاة اللوائح الوطنية. أدناه ثلاث أمثلة مختلفة للغاية من حول العالم:
على مستوى المدينة: روتردام التي تقود الطريق في المرونة الحضرية
تصدرت مدينة روتردام الهولندية قائمة مؤشر «أركاديس» للمدن المستدامة مائياً - «أركاديس» شركة عالمية للتصميم والهندسة والاستشارات الإدارية. كانت المدينة مبتكرةً واستباقيةً في نهجها لإدارة المياه؛ بما في ذلك الاستثمار الضخم في نظام تجميع المياه في الخزانات، كما أصبحت روتردام "واجهةً في المرونة الحضرية" التي تنتج عنها مباشرةً إمدادات المياه المستدامة، كما تعد المدينة من بين أعلى المدن في العالم من حيث احتياطيات المياه.
على مستوى الولاية: استراتيجيات المياه المستدامة لولاية فيكتوريا، أستراليا
في إطار عملية التخطيط لموارد المياه على مستوى ولاية فيكتوريا في أستراليا، توجد أربع استراتيجيات إقليمية للمياه. بناءً على «قانون المياه» لعام 1989؛ يجب مراجعة استراتيجيات المياه المستدامة هذه كل 10 سنوات على الأقل. بدأت مراجعة استراتيجية المياه المستدامة في المنطقة الوسطى في عام 2016 وقد اكتملت عام 2019، كما بدأت التقييمات الخمسية لاستراتيجيات المياه المستدامة في المنطقة الغربية ومنطقة «جيبسلاند» في عام 2017 وهي مكتملة أيضاً، وقد بدأ استعراض استراتيجية المياه المستدامة للمنطقة الشمالية في أواخر عام 2019 وهو مستمر حتى الآن.
على مستوى الدولة: استراتيجية مياه طويلة الأجل لأيرلندا الشمالية
تركز هذه الاستراتيجية واسعة النطاق على الإدارة المستدامة للمياه في الأنهار والبحيرات وخزانات المياه الجوفية المستخدمة في الحالات المنزلية والزراعية والصناعية. تقترح الاستراتيجية كيف يمكن إدارة مياه الأمطار الزائدة بشكل مستدام محلياً للحد من تأثير الفيضانات على المجتمعات، كما تفحص كيف يمكننا تقليل كمية الطاقة اللازمة لنقل ومعالجة مياه الشرب ومياه الصرف.
مشاريع الاستدامة المائية: ثلاث أمثلة من العالم العربي
مشروع «قطرة» لترشيد استهلاك المياه - المملكة العربية السعودية
أعلنت المملكة العربية السعودية؛ الذي يشكّل ملف الأمن المائي إحدى أولوياتها، عن برنامج «قطرة» لترشيد استهلاك المياه في المملكة، ووضع أهداف طموحة تشمل خفض الاستخدام بنحو 43% بحلول نهاية العقد المقبل، وجاء هذا الإعلان في المنتدى السعودي للمياه 2019.
تعد المملكة العربية السعودية؛ التي يبلغ عدد سكانها حوالي 33.5 مليون نسمة، ثالث أكبر مستهلك للمياه للفرد في العالم بعد الولايات المتحدة (التي يبلغ عدد سكانها 324.5 مليون نسمة تقريباً) وكندا (التي يبلغ عدد سكانها 37.2 مليون نسمة)؛ وفقاً لموقع قطرة على شبكة الإنترنت، وتهدف "وزارة البيئة والمياه والزراعة" من خلال برنامج قطرة إلى خفض الاستهلاك اليومي للفرد من حوالي الـ200 لتراً إلى 150 لتراً بحلول عام 2030.
تم إنشاء برنامج قطرة للمساهمة في تغيير سلوك الأفراد، وزيادة الوعي بأهمية المياه، والحفاظ على الموارد المائية، وتحسين موارد المياه من خلال الترشيد. كما لا تقتصر فائدة البرنامج على الاستدامة المائية وحسب؛ بل سوف يتيح للمجتمع تحقيق أقصى قدرٍ من المنافع - من دعم الغذاء وتوليد الكهرباء، وكذلك حماية الموارد الطبيعية.
يمثل الأمن المائي تحدياً رئيسياً يواجه المملكة العربية السعودية وقد أدى بالفعل إلى تصدّر المملكة الترتيب كأكبر منتج في العالم للمياه المحلاة. وفقاً لمؤشر الأمن الغذائي العالمي لعام 2015؛ يمكن لـ97% من سكان المملكة العربية السعودية الوصول إلى مياه الشرب - على الرغم من هطول الأمطار السنوي المنخفض للغاية، ومعدلات التبخر العالية جداً واستنزاف المياه الجوفية من خلال الاستخدام غير المقيد سابقاً.
مشروع أم درمان لتحسين إمدادات المياه - السودان
واحدة من أهم الخطوات نحو تحقيق «الأهداف الإنمائية للألفية» في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في عام 2008؛ إذ تم تصميم مخطط أم درمان لإمداد المياه وتحسينها للتخفيف من النقص الحاد في مياه الشرب في عاصمة السودان - الخرطوم، وما حولها. تم التعاقد مع شركة «باي ووتر» البريطانية لتمويل وبناء محطة معالجة المياه على نطاق واسع، والتوزيع والتخزين الأولي، مع مدخل على النيل، في اتجاه مجرى التقاء النيل الأبيض والنيل الأزرق.
تم بناء هيكل السحب المبتكر لإدارة تقلبات مستوى النهر الصعبة والتدفقات القوية وكميات كبيرة من الطمي التي يحملها النهر خلال موسم الأمطار كل عام بشكلٍ موثوق. ومن المثير للاهتمام أن هيكل السحب المبتكر تم تصميمه بواسطة «باي ووتر» للارتفاع والانخفاض على مستويين، والتعامل مع تباينات تصل إلى ثمانية أمتار في مستوى النهر، فضلاً عن الوزن الهائل وشدة الرواسب المحمولة في الماء.
استراتيجية الأمن المائي لدولة الإمارات 2036
كشفت وزارة الطاقة والبنية التحتية عن «استراتيجية الأمن المائي لدولة الإمارات 2036» وذلك في سبتمبر / أيلول 2017؛ والتي تهدف إلى ضمان الوصول المستدام إلى المياه أثناء الظروف العادية والطارئة بما يتماشى مع اللوائح المحلية ومعايير منظمة الصحة العالمية، ورؤية دولة الإمارات لتحقيق الازدهار والاستدامة.
تتمثل الأهداف العامة للاستراتيجية في خفض إجمالي الطلب على الموارد المائية بنسبة 21%، وزيادة مؤشر إنتاجية المياه إلى 110 دولارات أمريكية لكل متر مكعب، وتقليل مؤشر ندرة المياه بثلاث درجات، وزيادة إعادة استخدام المياه المعالجة إلى 95% وزيادة سعة تخزين المياه الوطنية تصل إلى يومين.
تركز الاستراتيجية على ثلاث برامج رئيسية، وهي: برنامج إدارة الطلب على المياه، وبرنامج إدارة إمدادات المياه، وبرنامج الإنتاج والتوزيع في حالات الطوارئ. كما تتناول الاستراتيجية تطوير السياسات والتشريعات وحملات التوعية بشأن الحفاظ على المياه واستخدام التقنيات المتقدمة والابتكار وبناء القدرات والكفاءات الوطنية في مجال الأمن المائي.
تهدف استراتيجية الأمن المائي 2036 إلى خفض متوسط استهلاك الفرد إلى النصف، فضلاً عن التركيز على الممارسات المستدامة. وتسعى الاستراتيجية إلى تطوير سعة تخزينية لنظام إمداد المياه تدوم لمدة يومين في ظل الظروف العادية؛ والتي ستكون معادِلةً لسعة 16 يوماً في حالات الطوارئ وكافية لتوفير المياه لأكثر من 45 يوماً في حالات الطوارئ القصوى.
كما تتضمن الاستراتيجية إنشاء 6 شبكات ربط بين كيانات المياه والكهرباء في جميع أنحاء دولة الإمارات العربية المتحدة؛ حيث ستكون تلك الشبكات قادرة على توفير 91 لتراً من المياه للفرد يومياً في حالات الطوارئ، أو 30 لتراً للفرد يومياً في حالات الطوارئ القصوى. بمجرد تنفيذها، ستحقق استراتيجية الأمن المائي 2036 توفير 74 مليار درهم إماراتي وتقلل من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المرتبطة بعملية تحلية المياه، بمقدار 100 مليون طن متري.
في النهاية، فإن استدامة المياه محورٌ يقع في صلب استراتيجيات التنمية المستدامة والأمن السياسي حول العالم، والفشل في تحقيق الاستدامة المائية الآن يعني صراعاتٍ أكبر في المستقبل، لذا إذا ما أردنا حماية البيئة من أجل الأجيال القادمة، فعلينا إدارة المياه اليوم بشكلٍ أكثر فاعليةً.