صندوق أسود ومخزن للحبوب وأرشيف وثائق: هذا ما أرسله البشر للمستقبل

7 دقائق
الصندوق الأسود للأرض
حقوق الصورة: موقع الصندوق الأسود للأرض.

من المتوقع في لحظة ما من المستقبل حدوث كارثة مدمرة على كوكب الأرض، قد تكون كارثة بيئية أو حرب نووية أو غيرها، فقد توقعت دراسة أجريت في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عام 1972 أن النمو الاقتصادي السريع سيؤدي إلى انهيار مجتمعي في منتصف القرن الواحد والعشرين. وقد دعمت دراسة من عام 2020 ذلك أيضاً، إذ خلُص الباحثون إلى أن الاستمرار بأسلوب العمل الذي تتبعه حضارتنا سيتجه بنا نحو الانهيار الاقتصادي خلال العقد المقبل وانخفاض رأس المال الصناعي والإنتاج الزراعي ومستويات الرفاهية خلال هذا القرن. وفي أسوأ الأحوال، يمكن أن يؤدي إلى انهيار مجتمعي بحلول عام 2040. يفكر البعض الآن بطريقة نُخبر بها أجيال المستقبل بما حدث لحضارتنا، وبنى آخرون منشأة تضمن حفظ الغذاء لهم.

حجر رشيد المستقبل: صندوق الأرض الأسود

ساعد اكتشاف حجر الرشيد في القرن التاسع عشر العلماء على فهم اللغة الهيروغليفية ونظام الكتابة المصرية القديمة، ما ساعد علماء الآثار لاحقاً على فك ألغاز الحضارة الفرعونية. لكن ماذا عن حضارتنا؟ كيف سيتعرف علينا البشر مستقبلاً؟ وكيف سيعرفون لماذا اختفت حضارتنا؟ هذا ما صُمم لأجله صندوق الأرض الأسود.

مثله مثل الصندوق الأسود الموجود في الطائرات، هذا الصندوق غير قابل للتدمير، يحتوي على محركات أقراص صلبة، توثّق ما حدث، وما سيحدث لحضارتنا. وسيكون بمثابة رسالة نتركها للمستقبل لمساعدة الحضارات القادمة على تجنب نفس المصير الذي سنؤول إليه، لأنه على وشك أن يشهد ويسجل نهاية العالم الذي نعرفه.

ما هو هذا الصندوق؟ 

يقع الصندوق الأسود للأرض في مكان ما على جزيرة تسمانيا الأسترالية النائية، على سهل يتناثر فيه الجرانيت، وتحيط به الجبال الوعرة. اختير هذا الموقع لاستقراره الجيوسياسي والجيولوجي، من بين أماكن أخرى رُشِّحت سابقاً مثل مالطا والنرويج وقطر.

الصندوق عبارة عن أداة مصممة لتسجيل أفعالنا، وكشفها عندما يتسبب تغير المناخ الكارثي في ​​انهيار حضارتنا. وهو مصنوع من الفولاذ الصلب بسمك 7.5 سم، طوله 10 أمتار وعرضه 4 أمتار وارتفاعه 3 أمتار. وصُنِع ليبقى أكثر منا جميعاً.

من المخطط ملء الصندوق بكتلة كبيرة من أقراص التخزين وتزويده بالاتصال بالإنترنت، وهو مزوّد بألواح شمسية على سطحه، وبطاريات للتخزين الاحتياطي للطاقة. عندما تشرق عليه الشمس، سيحمّل الصندوق الأسود البيانات العلمية من الإنترنت، وتستخلص خوارزميته البيانات المتعلقة بتغير المناخ. 

يقدّر المطورون أن سعته كافية لتخزين البيانات خلال الثلاثين إلى الخمسين عاماً القادمة، لكنهم يبحثون عن طريقة لزيادة هذه السعة، كما يبحثون عن طرق تخزين طويلة المدى، مثل النقش على الألواح الفولاذية، حتى يتمكن الصندوق من تخزين البيانات لمئات وآلاف السنين.

الهدف من إنشائه

يتسبب تغير المناخ والاحتباس الحراري على كوكب الأرض في كوارث بيئية تؤدي إلى تلف المحاصيل، ونقص موارد الغذاء، ما سيؤدي بدوره إلى استحالة إطعام البشر. بالإضافة إلى أن تغير المناخ يتسبب بارتفاع منسوب مياه البحار والمحيطات، ونزوح ملايين السكان القريبين من السواحل، نتيجة لذلك سينهار الاقتصاد العالمي، وستسقط حضارتنا التي نعرفها.

سيسجل الصندوق الأسود للأرض جميع المعلومات المتعلقة بتغير المناخ وانقراض الأنواع والتلوث البيئي والتأثيرات على الصحة، بحيث إذا ما اكتشفه أحدٌ ما من الحضارات المستقبلية، سيكون قادراً على فهم ما حدث لنا، إذ ذُكر على موقع الصندوق على الإنترنت: «الصندوق الأسود للأرض سيسجل كل خطوة نتخذها تجاه هذه الكارثة. المئات من مجموعات البيانات والقياسات والتفاعلات المتعلقة بصحة كوكبنا سيتم جمعها بشكل مستمر وتخزينها بأمان للأجيال القادمة».

سيجمع الصندوق نوعين من البيانات:

  •  قياسات بيئية مثل درجات حرارة الأرض والبحر، وتحمض المحيطات، وثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، وانقراض الأنواع، والتغيرات في استخدام الأراضي، بالإضافة إلى أشياء مثل تعداد السكان والإنفاق العسكري واستهلاك الطاقة.
  • بيانات إعلامية مثل عناوين الصحف ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي والأخبار من الأحداث الرئيسية مثل الاجتماعات التي تناقش تغير المناخ.

لن يسجل الصندوق الأسود البيانات عمّا يحدث في وقته الحاضر فقط، بل سيعود إلى الماضي، ويسجل البيانات التاريخية المتعلقة بالمناخ، والتي سيحصل عليها من الإنترنت أيضاً. 

للتجريب، بدأت محركات الأقراص الخاصة بالصندوق بتسجيل البيانات بالفعل بدءاً من مؤتمر المناخ COP26 الذي أُقيم في غلاسكو في نوفمبر/ تشرين الثاني من هذا العام. لكن لن يبدأ تشييد الهيكل الخارجي له قبل منتصف العام المقبل.

بالإضافة إلى جمع بيانات تغيرات المناخ وتسجيلها، الهدف من وجود هذا الصندوق «محاسبة القادة، للتأكد من تسجيل أفعالهم أو تقاعسهم عن العمل»، حسبما ذُكر على موقعه الرسمي. قد يكون لهذه الفكرة تأثير على أقوال قادة العالم وأفعالهم والخطوات التي يتخذونها من أجل الحد من التغيرات المناخية، والحفاظ على كوكب الأرض قابلاً للحياة للأجيال القادمة.

إذ يقول صانعو الصندوق الأسود للأرض: «الغرض منه هو تقديم حساب غير متحيز للأحداث التي أدت إلى زوال الكوكب، ومساءلة الأجيال القادمة، والحث على اتخاذ إجراءات عاجلة».

كيف سيتمكن مكتشفو الصندوق من تفكيك شيفرته؟

لا يعلم المطورون الحالة التي سيوجد عليها الصندوق الأسود للأرض، فقد يكون صدئاً، وألواحه الشمسية معطلة، وربما لن يعرف مستكشفوه ما هو أصلاً، وقد لا يعيرونه اهتماماً.، وقد يحاولون معرفه ماهيتيه وفك شيفرته، لكن كيف ذلك؟ 

يتطلب الوصول إلى الجزء الداخلي للصندوق من خلال غلافه الفولاذي الثخين بعض البراعة. ويفترض المطورون أن من سيتمكن من ذلك سيكون قادراً أيضاً على تفسير الرموز الأساسية له. 

يعمل المطورون على استخدام تنسيقات متعددة التشفير، ويستكشفون إمكانية تضمين قارئ إلكتروني يبقى داخل الصندوق، ويتم تنشيطه عند التعرض لأشعة الشمس، ويمكنه إعادة تنشيط الصندوق إذا دخل في حالة سكون طويلة المدى نتيجة لكارثة.

عندما يتمكن البشر المستقبليون من تشغيل الصندوق الأسود، سيتم الوصول إلى بنك البيانات المتنامي عبر منصة رقمية، ومن المخطط أن يتمكنوا أيضاً من الاتصال به لاسلكياً.

لا يزال المشروع في حاجة إلى الموافقة على التخطيط الرسمي والاستشارة المجتمعية، لكن «ديفيد ميدسون»، المدير العام لمجلس الساحل الغربي، المشرف على المنطقة التي من المقرر أن يتم فيها بناء المشروع، يقول إنه داعم كبير لتحقيق ذلك.

قبو يوم القيامة: قبو سفالبارد العالمي للبذور

في النصف الآخر من الكرة الأرضية، في مكان بعيد وبارد وجاف، وتحديداً في جزيرة سفالبارد في منتصف الطريق بين النرويج والقطب الشمالي، تقع منشأة أخرى أقامها البشر تحسباً لأي سيناريو خطير محتمل، قد يتسبب في خسارتنا للتنوع النباتي، وبالتالي غذائنا.

المنشأة هي عبارة عن قبو تُخزَّن فيه بذور النباتات التي سيحتاجها البشر لإعادة إحياء الأرض وإطعام أنفسهم بعد وقوع كارثة طبيعية أو حرب أو حتى بسبب التغيرات المناخية أو الجفاف مستقبلاً في كوكب الأرض أو في جزء منه، فالقبو مصمم لحماية نسخة احتياطية حيوية من بذور العالم في مكان آمن.

افتُتح قبو سفالبارد في عام 2008 داخل التربة الصقيعية في القطب الشمالي تحت درجة -18 مئوية، ويسمح موقعه بالاحتفاظ بدرجة حرارة متجمدة تبلغ حوالي -5 درجات مئوية لمدة 200 عام، حتى بدون كهرباء. يمكن أن يصمد أمام الزلازل والانفجارات البركانية والانهيارات النووية. وبسبب موقعه على الجبل، سيبقى دائماً فوق مستوى سطح البحر، حتى لو ذاب جليد الأرض كله.

تُحفظ البذور في صناديق خشبية مصنوعة يدوياً، ولا يوجد سواها هناك. ولا يسمح لأحد بدخول القبو إلّا من يريد إيداع البذور أو سحبها. لكن يمكن لمن يرغب بالاطلاع على محتوياته زيارة قاعدة البيانات الخاصة به على شبكة الإنترنت. 

يُفتح القبو مرتين في العام أمام المودِعين فقط لقبول شحنات البذور. وقد بلغ عدد عينات البذور حتى اليوم «1,125,419» عينة من «5,481» نوعاً، أودعها 89 بنكاً جينياً من حول العالم، على الرغم من وجود 1700 بنك جيني منتشر في جميع أنحاء العالم، تحمي عينات من جميع الأصناف تُقدر بنحو 2.2 مليون نوع من المحاصيل، وبذلك يحتفظ القبو بعينات لنصف هذه الأنواع فقط. ولحسن الحظ يتسع القبو لـ 3.5 مليون عينة، يمكن تخزينها على مدى السنوات القادمة.

إثبات من الماضي القريب لفائدة القبو

يعلم العالم فائدة القبو جيداً، لكن الحرب الأهلية الأخيرة في سوريا أثبتت قيمته حقاً، حينما طلب باحثون من المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (إيكاردا)، سحب مجموعة من بذور المحاصيل المقاومة للجفاف، بما في ذلك القمح والشعير من القبو، لتكون هذه هي المرة الأولى على الإطلاق التي يتم فيها سحب عينات من البذور من القبو

قبل الحرب الأهلية السورية، كان مقر مركز إيكاردا في مدينة حلب، وكان يحتوي على عينات خاصة بإيكاردا من البذور، لإجراء الأبحاث عليها. لكن في عام 2012 نقل المركز مقره إلى بيروت، هرباً من الحرب ولم يعد بإمكانه الوصول إلى هذه العينات.

وفي عام 2015، قدم المركز طلباً للقبو لسحب 130 صندوقاً من أصل 325 صندوق، أودعها هناك قبل الحرب. تحتوي الصناديق المسحوبة على 116 ألف عينة.

كان الهدف من سحب العينات إجراء أبحاث على إمكانية زراعة هذه المحاصيل في المناطق الجافة، للمساعدة في التخفيف من الجوع في العالم. وبذلك تمكّن المركز من مواصلة أبحاثه على الرغم من اندلاع الحرب في المنطقة. يؤكد هذا على أهمية القبو في حماية التنوع الحيوي في العالم إذا حدثت كارثة ما على الأرض.

لتخزين الوثائق: أرشيف القطب الشمالي

وفي مكان ليس ببعيد عن قبو البذور، في جزيرة سفالبارد أيضاً، افتُتح قبو آخر، هو عبارة عن مكتبة ضخمة، تخزن الكتب والوثائق والبيانات المهمة في العالم. وأُطلق عليه اسم "أرشيف القطب الشمالي"( Arctic World Archive).

افتتحت الأرشيف شركة «بيكل» Piql عام 2017، وهي شركة تكنولوجيا مبتكرة تقع في البر الرئيسي للنرويج. ويمكن للحكومات ومنشآت البحث وحتى الأفراد من جميع أنحاء العالم، تخزين سجلاتهم فيه على مدار الألف عام القادمة.

بدأ كل من الأرشيفين الوطنيين للمكسيك والبرازيل بإرسال بياناتهما ليتم تخزينها فيه. تلاهمها مكتبة الفاتيكان، والمتحف الوطني للنرويج، ووكالة الفضاء الأوروبية وغيرها من المنظمات من أكثر من 15 دولة.

يمكن إرسال البيانات الرقمية لأنواع مختلفة من الوثائق التي تتعلق بالفن والثقافة والأدب، ويمكن إرسال دستور البلاد كما فعلت البرازيل. 

من الصعب الحفاظ على الذكريات الرقمية لعدة قرون بسبب عدة عوامل متعلقة بالتكنولوجيا والتغيير المجتمعي والحروب والكوارث الطبيعية المحتملة، لكن ستكون هذه الوثائق المحفوظة في أرشيف القطب الشمالي متاحة للأجيال القادمة، لتعرفها على ما حدث في الماضي.

طوّر نظام الأرشيف شركة بيكل التي تطور تقنيات للحفاظ على البيانات المهمة التي لا يمكن الاستغناء عنها، وإتاحة الوصول إليها واستخدامها في أي وقت في المستقبل. 

ابتكرت الشركة وسيلة تخزين رقمية مصممة خصيصاً من أجل الأرشيف تسمى «بيكل فيلم»، ويمكنها الاستمرار لنحو ألف عام، مع إمكانية وصول مضمونة في المستقبل بغض النظر عن الوقت الذي مضى على تخزين البيانات فيها، وعن التطور الحاصل على التكنولوجيا.

إن هذه الطريقة في تخزين البيانات أكثر أماناً من الاحتفاظ بها على شبكة الإنترنت، حيث تكون عرضة للهجمات السيبرانية والقرصنة. بالإضافة إلى ذلك يمكن أن تصمد هذه التقنية أمام التعرض الكهرومغناطيسي الشديد، وستبقى ثابتة لقرون في ظروف التربة الصقيعية للقبو.

لا أحد يعلم إن كانت أجيال المستقبل ستستفيد من مخزن الحبوب الذي تركناه لها، وإن كانت ستعرف كيف ستتعامل مع تكنولوجيا الصندوق الأسود أو أرشيف البيانات، وهل سيكون بإمكانها فك شيفرة أي منهما، أو حتى إيجادهما. سنترك الإجابة عن هذه الاستفسارات إلى المستقبل البعيد، وربما المستقبل القريب إذا صحت نبوءة علماء معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

المحتوى محمي