بلغت درجة الحرارة في سيبيريا في 21 يونيو/ حزيران الماضي 38 درجة مئوية؛ إثر موجة الحر التي تجتاح القطب الشمالي. أثارت هذه الدرجة المرتفعة ذهولاً كبيراً في أوساط العلماء، نظراً للتحول الكبير في بيئة القطب الشمالي الذي كان مستقراً طيلة 30 عاماً مضت.
بالعودة إلى تسعينيات القرن التاسع عشر، توقع العلماء أن تؤدي زيادة مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي إلى ارتفاع درجة حرارة الكوكب، خصوصاً في القطب الشمالي، حيث سيؤدي ذوبان الجليد البحري والثلوج التي تعكس ضوء الشمس؛ إلى ارتفاع درجة الحرارة في تلك المنطقة. في الواقع، توقعت النماذج المناخية باستمرار إلى احتمال حدوث ظاهرة «التضخم القطبي» مع زيادة تركيز غازات الدفيئة.
حسناً، تحدث ظاهرة التضخم القطبي الآن بشكلٍ سيء. يسخن القطب الشمالي بمعدل يقارب ضعف معدل تسخّن الكرة الأرضية ككل. عندما تضرب موجات الحر كهذه، فإن الجميع يلاحظها بوضوح. يتردد العلماء عموماً عن قول «لقد أخبرناكم بأن ذلك سيحدث»، ولكّن الدليل على حدوثها أصبح واضحاً.
بصفتي مديراً لـ «مركز البيانات الوطنية للثلج والجليد» وعالماً في مناخ القطب الشمالي، فقد حظيت بفرصة زيارة القطب الشمالي عام 1982 لأول مرة، وكنت شاهداً على هذا التحوّل الكبير هناك.
موجات الحر في القطب الشمالي تدوم فترة أطول
تضرب موجات الحر القطب الشمالي في الوقت الذي يحترّ الكوكب كله، لذلك باتت أكثر تكراراً مما كانت عليه في الماضي. وفقاً لبرنامج رصد «كوبرنيكوس» التابع للاتحاد الأوروبي، سجّلت المنطقة الواقعة غرب سيبيريا أعلى فصول الربيع حرارة على الإطلاق هذا العام، ومن غير المتوقع أن تنتهي موجة الحر غير المعتادة هذه قريباً. فقد تنبأ منتدى مناخ القطب الشمالي بدرجات حرارة فوق المتوسط في معظم مناطق القطب الشمالي حتى أغسطس/ آب من هذا العام على الأقل.
لماذا تطول هذه الموجة الحارة؟ لا أحد لديه إجابة كاملة حتى الآن، ولكن يمكننا إلقاء نظرةٍ على النماذج المناخية بحثاً عن الإجابة. كقاعدةٍ عامة، ترتبط موجات الحرّ بأنماط تيارات نفّاثةٍ غير عادية، وموجة الحرارة السيبيرية ليست استثناءً هنا. لقد وضع تيار نفّاث مستمر باتجاه الشمال المنطقة تحت تأثير ما يدعوه خبراء الأرصاد الجوية «أخدود هوائي». عندما يتعرّج التيار النفّاث شمالاً كمثل هذا التيار، فإنه يسمح بانسياب هواءٍ أكثر دفئاً إلى المنطقة، مما يرفع درجة حرارة السطح.
يتوقع بعض العلماء أن يؤثر ارتفاع درجات الحرارة العالمية على هذا التيار النفاث. في الواقع، فإن سبب حدوث هذا التيار أصلاً يعود إلى التباين في درجات الحرارة، وهكذا، مع ارتفاع درجة حرارة القطب الشمالي بسرعةٍ أكبر، تتقلّص هذه الفروقات أو التباينات، وبالتالي يمكن أن يتباطأ التيار النفّاث وتطول مدة تأثيره.
هل هذا ما نراه الآن؟ لا نعلم بعد.
ذوبان الغطاء الجليدي وحلقات التغذية الراجعة
نعلم أننا نشهد تأثيراتٍ كبيرة لموجة الحر هذه، وخصوصاً فيما يتعلّق بفقدان الجليد البحري. يبدو الجليد على طول شواطئ سيبيريا بمظهر الجبن السويسري الآن في صور الأقمار الصناعية؛ مساحات واسعة من المياه المفتوحة كانت لا بدّ أن تظهر مغطّاةً بالجليد عادةً. لقد سجّل امتداد الجليد البحري في بحر «لابتيف» شمال روسيا أدنى مستوى له في هذا الوقت من العام منذ بدء رصد الأقمار الصناعية له.
كما يؤثر فقدان الجليد البحري على درجة الحرارة، مما يخلق حلقة تغذية راجعة. يعكس الغطاء الجليدي والثلجي للأرض الطاقة الواردة للشمس، حيث يساعد على الحفاظ على برودة المنطقة، وبالتالي، عندما يختفي ذلك الغطاء العاكس، تمتص الأرض والمحيط الحرارة، مما يرفع درجة حرارة السطح أكثر.
درجات حرارة سطح البحر مرتفعة فعلاً الآن بشكل غير اعتيادي على طول أجزاءٍ من ساحل سيبيريا، وستؤدي مياه المحيط الدافئة إلى ذوبان الجليد بكمياتٍ أكبر.
In association with the record warmth (https://t.co/nVwzM2cUWh), #Arctic sea ice extent along the Siberian coastline is currently a record low for the date.
[Regions include the East Siberian, Laptev, and Kara Seas] pic.twitter.com/vNeie5fHzp— Zack Labe (@ZLabe) June 21, 2020
مخاطر ذوبان الجليد الدائم
هناك مخاوف من ارتفاع درجة حرارة التربة الصقيعية القطبية، وهي الأرض المتجمدة الدائمة التي توجد في معظم التضاريس القطبية.
عندما تذوب التربة الصقيعية الدائمة تحت المنازل والجسور، يمكن أن تغرق البنية التحتية، أو تتشوه أو تنهار. كان ذلك الأمر مثار قلق واهتمام سكان ألاسكا منذ عدة سنوات. وبالقرب من نوريلسك في روسيا، ألقي باللوم على ذوبان الجليد الدائم في حادث انهيار خزان نفطٍ في أواخر مايو/ آيار الماضي، والذي أدى لانسكاب آلاف الأطنان من النفط في أحد الأنهار.
يخلق ذوبان التربة الصقيعية (الجليد الدائم) مشكلة ليست واضحة كثيراً، ولكنها تسبب أذى وضرراً كبيرين. في الواقع، عندما تذوب الأرض الصقيعية، تبدأ الميكروبات في التربة بتحويل المادة العضوية إلى ثاني أكسيد الكربون وميثان. وكلاهما من غازات الدفيئة التي تزيد من احترار الكوكب.
في دراسة نشرت العام الماضي، وجد الباحثون أن درجة حرارة بعض مواقع اختبار التربة الصقيعية حول العالم قد ارتفعت بنحو نصف درجة فهرنهايت في المتوسط؛ خلال عقدٍ امتد من عام 2007 حتّى عام 2016، وكانت أكبر زيادة في سيبيريا. ارتفعت حرارة بعض المناطق هناك حتّى 1.6 درجة فهرنهايت. قد تؤدي الموجة الحارّة في سيبيريا -إذا استمرت لفترةٍ أطول- إلى تفاقم ارتفاع درجة حرارة الجليد الدائم وذوبان الجليد على المستوى الإقليمي.
عودة حرائق الغابات مجدداً
تزيد الحرارة الشديدة أيضاً من خطر نشوب حرائق الغابات، والتي تغير المشهد جذرياً بطرقٍ أخرى. فالغابات الجافة أكثر عرضة للحرائق، خصوصاً تلك الناجمة عن ضربات البرق. عندما تحترق الغابات، يمكن للتربة الداكنة المكشوفة أن تمتص المزيد من الحرارة، وتسرّع الاحترار.
لقد شهدنا منذ بضع سنوات حرائق غاباتٍ شديدة في جميع أنحاء القطب الشمالي. وفي هذا العام، تكهن بعض العلماء بأن بعض حرائق سيبيريا التي اندلعت العام الماضي ربما استمرت خلال الشتاء في مستنقعات الخثّ، وعادت إلى الظهور مجدداً.
نمط مناخي مقلق
لا شك في أن موجة الحر السيبيري وتأثيراتها ستُدرس على نطاقٍ واسع. بالتأكيد، سيرفض العديد اعتبار هذه الموجة مجرّد نتيجة لنمط الطقس الشاذ والمستمر. يجب توخي الحذر دائماً عند قراءة هذا الحدث بمعزلٍ عن الأحداث الأخرى. تحدث موجات الحرّ عادة لكنها هنا جزء من نمطٍ مناخي مقلق.
إن ما يحدث في القطب الشمالي مقلقٌ للغاية، ويجب أن يكون بمثابة تحذيرٍ لكل من يهتم بمستقبل الكوكب كما نعرفه.