انفجرت محطة تشيرنوبل النووية في أوكرانيا في 26 أبريل/ نيسان من عام 1986، مُشكّلة أسوأ كارثة تلوث نووي في تاريخ البشرية؛ إذ تناثرت المواد الإشعاعية حولها على مساحة تزيد على 90 كيلومتراً مربعاً، وتحولت إلى منطقة غير مؤهلة للسكن. على مدى العقود التالية، استمرت الغابات المحيطة بمحطة تشيرنويل بأشجارها ونباتاتها في التقاط الملوثات النووية من مياه الأمطار والهواء والتربة، فكيف انتقل التلوث الإشعاعي إلى النباتات؟
التلوث الإشعاعي
يحدث التلوث الإشعاعي نتيجة تسرب المواد الإشعاعية بفعل الأنشطة البشرية (الصناعية والطبية والعسكرية والعلمية)، أو نتيجة عمل إرهابي، أو بشكل طبيعي في الأرض والغلاف الجوي. تصل الملوثات النووية إلى البيئة المحيطة بكل ما فيها من هواء وماء وتربة، وتترسب على الكائنات الحية، وهنا تبدأ المخاطر.
تتكون المواد المشعة من عناصر كيميائية غير مستقرة، تُعرف بـ "النويدات المشعة". ولتصل هذه النويدات إلى حالة الاستقرار تتحلل بمعدل تحول ثابت لكل عنصر يدعى بنصف العمر إلى عناصر أخرى قد تكون غير مستقرة أيضاً. بعض المواد المشعة ذات فترات نصف عمر طويلة تصل إلى ثلاثين عاماً مثل السيزيوم 137، أما السيزيوم 134 فتبلغ فترة نصف العمر له مدة عامين. خلال هذا الاضمحلال (التحلل)، تُصدر الذرات غير المستقرة إشعاعاً على شكل جسيمات (ألفا أو بيتا) أو موجات (جاما) يمكنها اختراق الجسم وإلحاق أضرارٍ صحية بالغة بمختلف الكائنات الحية، بما فيها النباتات التي تشكل جزءاً من سلسلة غذاء البشر.
التلوث الإشعاعي للنباتات
يصل التلوث الإشعاعي إلى النباتات من عدة مصادر، ومنها: السقوط من الانفجار النووي، أو حركة النويدات المشعة في التربة، أو من الغلاف الجوي مع الرياح أو مياه الري الملوثة بالنويدات المشعة. قد يكون التلوث مباشراً ويصيب الأوراق والثمار والبذور، أو يمكن أن يكون بشكل غير مباشر ومخفف عن طريق الجذور بعد استقرار النويدات المشعة في التربة. على الرغم من ذلك، لا يعد دخول المواد المشعة إلى النباتات عن طريق التربة مهماً بالنسبة للنويدات القصيرة نصف العمر، أي التي تتحلل إلى ذرات مستقرة بوقت قصير نسبياً، فالنباتات نفسها أكثر تلوثًا من الجذور. إلا أن المواد المشعة يمكن أن تتحرك في الترب الثابتة إلى أعماق التربة ببطء، لذا تمتص النباتات ذات الجذور السطحية، مثل المحاصيل الزراعية، أكبر كمية من بقايا الملوثات النووية في التربة.
طرق انتقال الملوثات الإشعاعية إلى النبات
في دراسة أجراها العالم الدانماركي "أولي جون نيلسن" في عام 1981 في "مختبر ريزو الوطني" (Riso National Laboratory) سابقاً في الدانمارك، مسح الباحث مسارات انتقال المواد المشعة إلى النبات في نموذج افتراضي لحادث انفجار محطة وقود نووية، واستنتج عدة مسارات للملوثات المشعة في النبات، وهي:
1- امتصاص جذور النباتات للتلوث الإشعاعي: المسار غير المباشر
استنتج الباحث أن سرعة امتصاص المواد المشعة عبر الجذور في النباتات تختلف باختلاف الوقت من العام، ورجّح ارتباط معدل امتصاص الجذور بتوقيت حدوث الترسيب. وبذلك، فإن انتقال التلوث الإشعاعي إلى النبات عبر امتصاص الجذور ليس بذي أهمية مقارنة بالتلوث المباشر فيما يتعلق بالمخاطر الصحية المحتملة، وبشكل خاص خلال السنة الأولى من ترسّب المواد الملوثة.
2- انتقال التلوث الإشعاعي إلى النباتات بالترسيب
الترسيب هو الطريق المباشر لانتقال الملوثات الإشعاعية إلى النبات، وهو جميع العمليات التي تؤدي إلى نقل الملوثات الإشعاعية الغازية أو الجسيمية من الغلاف الجوي إلى النبات. تتوقف شدة وتأثير ترسب المواد الإشعاعية على عدة عوامل ومنها:
- نوع الجسيمات المشعة وحجمها.
- العوامل الجوية مثل درجة الحرارة وسرعة الرياح والرطوبة.
- نوع الغطاء النباتي وكثافته وخصائصه العضوية.
- نوع الترسيب، حيث يختلف الترسيب الجاف للجزيئات الغازية عن الترسيب الرطب.
تتشكل الملوثات السائلة من التقاط النوى الجوية للنويدات المشعة، وقد تكون هذه النوى موجودة بشكل طبيعي في الغلاف الجوي مثل الغبار والرمل وحبوب الطلع ونواتج الانفجارات البركانية، أو بفعل النشاط البشري مثل نواتج عمليات الاحتراق وتجارب الأسلحة النووية. في حين يستغرق الترسيب الجاف للجسيمات على سطح الغطاء النباتي وقتاً أطول وآليات مختلفة، إذ تتعرض الجسيمات لعمليتي ترسيب أو ارتداد، وفقاً لقطر الجسيم.
3- إعادة تعلق الملوثات الإشعاعية بالنبات
بعد وصول الملوثات سطح النبات تتعرض للإزالة بفعل عمليات التجوية المائية أو الهوائية إلى الأرض، ويمكن إعادة تعلقها بالأسطح الخارجية لسطح النبات. تعتمد إعادة التعلق على عدة عوامل مثل طبيعة السطح الخارجي للنبات وعمره وخصائصه. تحمل إعادة التعلق على سطح النبات مخاطر محتملة على صحة الإنسان، لارتفاع فرص استنشاقها.
4- إزاحة الملوثات الإشعاعية من أجزاء النبات الخارجية إلى أنسجته الداخلية
تخضع الملوثات الإشعاعية بعد تعلقها على أجزاء النبات الخارجية إلى الإزاحة بفعل عمليات غسل الخضر والفواكه، أو إزالة الطبقات الخارجية لها، إلا أنها أيضاً يمكن أن تنتقل إلى أنسجة النبات الداخلية، عبر ثلاث طرق: إما عن طريق امتصاص الأوراق، أو امتصاص الأزهار، أو من خلال الأجزاء القاعدية للنبات (امتصاص الجذور السطحية)، وهي الكمية التي تشكل الخطر الأكبر على صحة الإنسان. يعتمد دخول النويدات المشعة إلى أنسجة النبات الداخلية على:
- خصائص الملوثات المشعة المترسبة من حيث حجم الجسيمات والانحلالية والخصائص الكيميائية وغيرها، حيث يدخل عنصر اليود الغازي المشع إلى النبات عن طريق الثغور النباتية، في حين يتم امتصاص الملوثات القابلة للانحلال من خلال طبقة البشرة الخارجية (epidermis) بالإضافة إلى الثغور.
- الخصائص الحيوية للنبات، مثل أسلوب النمو والحالة الفسيولوجية.
- الظروف البيئية كالرطوبة ودرجة الحرارة.
ختاماً، إذا كنا نسعى لاستخدام الطاقة النووية في المستقبل بوصفها مصدر طاقة متجدد ومنخفض الكربون، وإذا أردنا التعامل مع مخلفات الحوادث والتفجيرات النووية في القرن الماضي، مثل تشيرنوبل وهيروشيما، فلا بد من إجراء المزيد من الدراسات لفهم تأثير الملوثات الإشعاعية وطرق انتقالها إلى النباتات وسائر الكائنات الحية.