"المصائب لا تأتي فُرَادى"؛ يبدو أن أحداث هذا العام تتماشى مع هذه المقولة، وبغض النظر عن ذلك؛ تأخذ سلسلة الأحداث المؤسفة منحىً جديداً تماماً عندما تشمل حالات الانقراض والتغير المناخي الهائل، والتغيرات الرئيسية في الغلاف الجوي؛ وهذا ما حدث تماماً قبل حوالي 42 ألف عام؛ ففي نفس الوقت تقريباً، انقرض إنسان نياندرتال والحيوانات الضخمة الكبيرة، وبدأ ظهور فنّ الكهوف في آسيا وأوروبا (دلالةً على لجوء البشر الأوائل إلى الكهوف هرباً من الجو الذي لا يطاق)، كما تشكّلت مساحات جديدة من الصفائح الجليدية في أميركا الشمالية، وكأن ذلك لم يكن كافياً؛ فانقلبت أقطاب الأرض المغناطيسية؛ مما تسبب في إطلاق كمياتٍ أكبر من العناصر الكيميائية الضارة في الغلاف الجوي؛ مثل الكربون المشع، وانتقالها لاحقاً إلى الحيوانات والنباتات، وبالرغم من أن العلماء افترضوا في السابق أن هذه الأحداث مرتبطةٌ ببعضها بطريقةٍ أو بأخرى؛ فإن تحديد طبيعة الارتباط وآليته -دون وجود آلةٍ للزمن تعيدنا إلى ذلك الزمن الغابر- كان صعباً في الواقع.
الأشجار القديمة كبديل للزمن
رغم صعوبة ذلك؛ تمكّن الباحثون من معرفة ماذا حدث قديماً من خلال الاستعانة بالأشجارٍ كبديل للزمن، تبلغ أعمار تلك الأشجار آلاف السنين؛ ومنها أشجار «كوري - kauri» النيوزيلندية القديمة؛ والتي يمكن أن تعيش لأكثر من ألفيّ عام. بعد ذلك تُحفظ بقاياها في الأراضي الرطبة لآلاف السنين بعد موتها.
درس الباحثون حلقات بعض هذه الأشجار القديمة، وجدوا دليلاً على الوقت الذي ارتفع فيه تركيز الكربون المشعّ في الغلاف الجوي أثناء ضعف الأقطاب المغناطيسية للأرض؛ الذي حدث قبل 42 ألف عام، وسُميّ بـ «انحراف لاشامب»، ولكن الأهم من ذلك هو أن حلقات النمو السنوية لهذه الأشجار، سمحت للباحثين بإنشاء جدول زمني مفصّل لجميع الأحداث الغريبة في ذلك الوقت، وشملت تلك الأحداث حوادث الانقراض وتغير المناخ، وغيرها من الأحداث التي حدثت في وقتٍ قريب من «انحراف لاشامب».
تغيّر المجال المغناطيسي للأرض
يقول المؤلف الرئيسي «كريس تورني»؛ عالم متخصص في علوم الأرض في جامعة ويست ويلز؛ والذي أطلق على تداخل هذه الأحداث الكونية المجنونة اسم حدث «آدمز»: «لقد بدت وكأنها نهاية العالم، في حين أن تغيّر أقطاب الأرض المغناطيسية قد يبدو جزءاً منسياً من تاريخ كوكبنا، إلا أنّ آثاره ما تزال حتى الآن». نُشرت الدراسة التي شارك تورني في تأليفها الأسبوع الماضي في دورية «ساينس».
من المعروف أن الأقطاب المغناطيسية تحدد اتجاه الشمال والجنوب بالنسبة للكرة الأرضية؛ واللذين تشير إليهما البوصلة عادةً، ولكن؛ ومثل العديد من الأحداث السابقة، يمكن أن تنحرف هذه الأقطاب قليلاً ولا تعود في نفس المكان دائماً، وبهذا قد يكون اتجاه الشمال الذي تشير إليه البوصلة مختلفاً قليلاً عن مكان الشمال المغناطيس الفعلي. يبقى القطبان المغناطيسيان في مكانهما النسبي معظم الوقت، ولكن عندما ينحرفان عن مكانهما الطبيعي كثيراً، يُطلق على ذلك اسم «انحراف»، أما عندما ينقلب القطبان تماماً، ويتحول بالتالي الشمال إلى جنوب، يُدعى ذلك «انقلاباً».
يقول تورني: «يضعف مجال الأرض المغناطيسي؛ والذي يعمل كدرعٍ واقٍ من الجسيمات عالية الطاقة الآتية من الفضاء البعيد، عند انحرافه أو انقلابه، وفي حالة حدث آدمز، يختفي المجال المغناطيس إلى حدّ ما، ويترك الأرض دون درعٍ واقٍ؛ هذا يعني أن الأرض تبقى أمام الإشعاعات والجسيمات الكونية الآتية إلينا مباشرة؛ مما يعرّض الحياة على الأرض للمزيد من الإشعاع المكثّف والأشعة فوق البنفسجية الضارة».
المجال المغناطيسي للأرض والانقراض
ما علاقة كل هذا بانقراض الحيوانات الضخمة وإنسان نياندرتال؟ اعتقد العلماء في السابق أن أثر انقلاب الأقطاب المغناطيسية وانهيارها التالي كان ضئيلاً على الأرض وسكانها، لكن هذه الدراسة تُظهر العكس تماماً؛ إذ ربطت هذه الظاهرة الغريبة بأحداث تغيّر مسارات الحياة الأخرى التي حدثت على الأرض في نفس الوقت تقريباً.
وبالرغم من أن هذا التفسير منطقي ورائع من الناحية التاريخية، إلا أن له آثاراً على الطريقة التي نتعامل بها مع تغير المناخ اليوم إذا كان صحيحاً. تتمثل المشكلة الأساسية في انحراف الأقطاب أو انقلابها في أنها يمكن أن تحدث في أي وقتٍ رغم ندرة حدوثها، ولكن إذا حدث شيءٌ من هذا القبيل في العصر الحديث، أو حتى اضطرابٌ مؤقت في غلاف الأرض المغناطيسي؛ كالعواصف المغناطيسية مثل عاصفة «كارينغتون» التي حدثت قبل 150 عاماً، فإن أثره سيكون مدمراً.
يقول «جوزيف ميرت»؛ عالم التاريخ الجيولوجي بجامعة فلوريدا، وغير المشارك في الدراسة: «نعيش في عالمٍ إلكتروني، ويمكن أن يتسبب ضعف مجال الأرض المغناطيسي بإلحاق ضررٍ بالغ بعالمنا. في الحقيقة المجال المغناطيسي يحمينا الآن، والفضل بوجودنا يعود له».
في الوقت الذي نتحضّر فيه لمواجهة التغير المناخي الذي يسببه الإنسان، من المهم أن نتذكّر أن نماذجنا الحاسوبية ليس بوسعها مساعدتنا للتحضّر لأحداث عشوائية ومجنونة مثل انقلاب الأقطاب المغناطيسية؛ مما يزيد من أهمية خفض انبعاثات الكربون. يقول تورني: «آخر شيء نحتاجه هو حدثٌ عشوائي مثل هذا يؤثر علينا أكثر».
ستفاجئنا الطبيعة دائماً بأحداثٍ قد تكون مؤذيةً جداً للبشرية، ومن أجل مستقبلٍ مستدام، فإن الاستعداد الجيد هو الحد الأدنى الذي ينبغي علينا القيام به للنجاة من هذه الأحداث التي لا يتوقّع أحدٌ قدومها.
هذا المقال محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً