تعج معظم المسطحات المائية بأشكال الحياة الميكروبية. والبحر الأبيض المتوسط ليس استثناءً. طوّرت الكائنات الحية البحرية المجهرية طرائق جديدة للتحرك؛ إذ إن هذه الكائنات تلتصق على وتزدهر على الجسيمات البلاستيكية الدقيقة.
بكتيريا الألياف البلاستيكية
اكتشف فريق من علماء الأحياء من جامعة السوربون الفرنسية 195 نوعاً من البكتيريا تعيش على الألياف الدقيقة التي تطفو في البحر الأبيض المتوسط، نشر الباحثون نتائجهم بتاريخ 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 في مجلة بلوس ون (PLOS ONE). وفقاً للتحليل الجديد الذي أجراه العلماء، يمكن أن تحتوي قطعة واحدة من الألياف الدقيقة على أكثر من 2600 خلية بكتيرية. على الرغم من أنه لم تكن جميع الميكروبات البحرية الموجودة على الجسيمات البلاستيكية خطيرة، كان الباحثون قلقين بشكل خاص بسبب ارتفاع عدد الأنواع البكتيرية التي قد تضر بأشكال الحياة البرية والبشر على حد سواء.
تقول مؤلفة الدراسة الجديدة والباحثة في التلوث البلاستيكي البحري في جامعة السوربون آنا لوزيا دي فيغيريدو لاسيردا: "تعتبر المواد البلاستيكية ركائز جديدة نسبياً في المحيط"، وتضيف: "نكتشف حالياً أنواع الكائنات التي تعيش على المواد البلاستيكية لنحدد مدى تنوّع المجموعات البكتيرية والأنواع التي قد تتسبب في الأمراض أو التي قد تكون غازية".
اقرأ أيضاً: ما المشكلة في الوعود التي تقطعها الشركات للتقليل من التلوث البلاستيكي؟
قدّر مؤلفو تقرير صدر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة عام 2020 أن كمية النفايات البلاستيكية التي تصل إلى البحر الأبيض المتوسط يومياً تبلغ 730 طناً، ما يتسبب بوجود أكثر من 64 مليون جسيم بلاستيكي عائم لكل كيلومتر مربع في مناطق معينة، وتشمل هذه الجسيمات الألياف البلاستيكية الدقيقة. في الواقع، من بين جميع أحواض المحيطات الرئيسية في العالم، يحتوي البحر الأبيض المتوسط على أعلى تركيز للألياف الدقيقة. وفقاً للاسيردا، يتم إطلاق هذه الخيوط الاصطناعية الصغيرة من قبل مصادر مثل شباك الصيد البالية ومنتجي المنسوجات أو أكوام الملابس المستعملة؛ إذ تقول: "تعتبر هذه الألياف الدقيقة أحد أكثر أنواع الجسيمات البلاستيكية الدقيقة وفرة في المحيطات".
تبين الدراسة الجديدة أن بعض العوامل مثل الملوحة والكثافة المرتفعتين لمياه البحر الأبيض المتوسط قد يسهم في ازدياد تركيز الألياف التي تعوم قرب سطح المياه.
مجمع اصطناعي ميكروبي جديد
تسبب التلوث الناجم عن البلاستيك في محيطات العالم بتشكّل مجتمع اصطناعي جديد من الميكروبات البحرية، والذي يطلق عليه الباحثون اسم الغلاف اللدنيّ، تستطيع البكتيريا الطافية والميكروبات الأخرى أن تفرز جزيئات لزجة تساعدها في الالتصاق بأي شيء مثل الخشب أو الطحالب الدقيقة أو الرواسب. قالت خبيرة الأمراض المعدية في جامعة كاليفورنيا، ديفيس، كارين شابيرو في رسالة عبر البريد الإلكتروني لموقع بوبساي (PopSci، العلوم للعموم): "تنتج البكتيريا عند التصاقها المزيد من هذه المواد اللزجة لتمكّن المزيد من الميكروبات بالالتصاق، ما يتسبب بتشكّل ما يدعى بالغشاء الحيوي الرقيق"، لكن وفقاً للاسيردا، تكمن المشكلة المتعلقة بالمواد البلاستيكية في أن تحللها يستغرق وقتاً طويلاً للغاية مقارنة بالمواد الطبيعية في البيئات البحرية. ما يزيد من خطر انتشار الملوثات الميكروبية. تعتبر بعض أنواع المواد البلاستيكية أقل كثافة من مياه البحر، وهي تطفو على سطح المياه حيث يمكن أن تحملها تيارات المحيط لمسافات طويلة.
تقول لاسيردا: "تؤدي المواد البلاستيكية دور القوارب بالنسبة للكائنات الحية الدقيقة"، وتضيف: "تنقل هذه المواد الأنواع من منطقة لأخرى، ما قد يؤدي إلى حدوث تغيّرات في الأنظمة الطبيعية".
اقرأ أيضاً: ما أهم الكوارث الطبيعية التي تحدث تغيرات في البيئة؟
يمكن أن تصبح رائحة المواد البلاستيكية شبيهة برائحة الطعام بالنسبة للكائنات البحرية عندما تستعمرها البكتيريا، ويمكن لهذه الكائنات أن تتناول المواد البلاستيكية عن طريق الخطأ. لا يعني ذلك أن اللدائن الدقيقة تدخل إلى السلسلة الغذائية فحسب، بل بيّنت الدراسات السابقة أن المواد الكيميائية السامة الموجودة في المواد البلاستيكية قد تتسبب في الاضطرابات الهرمونية التي تؤثر في النمو والتكاثر عند بعض أنواع الكائنات البرية مثل الحيتان القاتلة والمحار.
لاكتشاف أنواع البكتيريا التي قد تأويها الألياف الدقيقة في البحر الأبيض المتوسط، قامت لاسيردا وزملاؤها بتجميع عيّنات من الطرف الشمالي الغربي للبحر قرب سواحل مدينتي موناكو ونيس الفرنسيتين، وبعد عزل الألياف الدقيقة، استخدم الفريق التصوير المجهري وسلسلة الحمض النووي لتحديد أنواع البكتيريا التي تعيش على الألياف وقارنوها بالبكتيريا التي تعوم بحرية في المياه. من بين الأنواع الـ 195 التي تعيش على الألياف الدقيقة، وجد الباحثون "كمية كبيرة" من البكتيريا المسببة للأمراض التي تحمل اسم الضمّة نظيرة الحالّة للدم(Vibrio parahaemolyticus)، والتي يمكن أن تتسبب بالتسمم الغذائي نتيجة تناول المأكولات البحرية لدى البشر.
اقرأ أيضاً: النفايات البلاستيكية: قاتلة بكتيريا الأكسجين في المحيطات
كشفت دراسات سابقة وجود الكائنات الحية الدقيقة البحرية المسببة للأمراض على المواد البلاستيكية في المحيط، مثل بكتيريا إيروموناس سالمونيسيدا (Aeromonas salmonicida)، والتي يمكن أن تصيب أسماك السلمون وتقتلها، و البكتيريا العصوية المقوّسة (Arcobacter)، والتي يمكن أن تتسبب بالأمراض لدى البشر.
قالت شابيرو، والتي لم تشارك في الدراسة الجديدة ولكنها درست الغلاف اللدنيّ من قبل، في رسالة البريد الإلكتروني: "وجد المؤلفون في إحدى العينات أن ما يقرب من ثلث أنواع البكتيريا كان من الضمّة نظيرة الحالة للدم، وهي نسبة لا يستهان بها وقد تكون خطيرة نظراً لأن هذه البكتيريا قد تتسبب بالأمراض"، وأضافت: "يمكن أن تسهم هذه الألياف التي ينتجها البشر والتي ينتهي بها المطاف في المحيطات في نقل الأمراض إلى أشكال الحياة البرية وكذلك إلى الأشخاص الذين يستهلكون الأسماك الصدفية التي قد توجد فيها الملوثات بكثافة". تزدهر بكتيريا الضمّة نظيرة الحالّة للدم في المياه الدافئة منخفضة الملوحة حيث يتم استزراع الحيوانات مثل المحار عادة.
تقول لاسيردا إن تحديد الأماكن التي توجد فيها الألياف الدقيقة، والأنواع الضارة التي تحملها، يمكن أن يساعد الناس في معرفة ما إذا كانت بعض المسطحات المائية آمنة للاستحمام أو الزراعة أو صيد الأسماك، يمكن أن يؤدي التغيّر المناخي إلى زيادة انتشار الكائنات الدقيقة التي تعيش على البلاستيك والتي تتأثر بدرجة الحرارة، وزيادة قدرتها على التسبب بالأمراض، ويشمل ذلك بكتيريا الضمّة نظيرة الحالّة للدم. تقول لاسيردا: "مع ازدياد درجة حرارة المحيط، تزداد قدرة الكائنات الحية الدقيقة على التسبب بالأمراض وعلى الالتصاق [بالمواد البلاستيكية]".
يصح هذا الكلام بشكل خاص في البحار المحاطة بالبر مثل البحر الأبيض المتوسط، والتي ترتفع درجة حرارتها بمعدل أكبر من المناطق الأخرى في العالم. تقول لاسيردا إنه كنتيجة لذلك، "من المتوقع أن يستجيب الغلاف اللدني في البحر الأبيض المتوسط بسرعة أكبر للتغيّر المناخي".
اقرأ أيضاً: بكتيريا آكلة للحوم: تصيبنا بالأمراض وتتأثر بالاحتباس الحراري
وفقاً لشابيرو، ستضاف نتائج الدراسة الجديدة إلى مجموعة مستمرة التوسع من الأدلة العلمية التي تبيّن أن ازدهار البكتيريا البحرية على النفايات البلاستيكية "يمثّل ظاهرة عالمية تستحق المزيد من الدراسة". تعتقد لاسيردا وشابيرو أن هناك حاجة لإجراء المزيد من الأبحاث على التفاعل بين مسببات الأمراض والملوثات المختلفة مثل المواد البلاستيكية للوصول إلى فهم أفضل للطريقة التي يؤثر فيها البشر في الأنظمة البيئية البحرية ويضروّن بها.
تقول لاسيردا: "أعتقد أن عوام الناس يجب أن يكونوا على دراية بهذه المشكلة، وأن يفهموا أن التلوث الناجم عن البلاستيك لا يؤثر فقط في أشكال الحياة البحرية، بل إنه يؤثر في البشر أيضاً". تضيف لاسيردا قائلة إنه مع استمرار تفاقم مشكلة التلوث الناجم عن البلاستيك، "يجب على البشر أن يبحثوا عن نمط حياة مختلف".