منتشرةً بشكل متداخل بين الجبال المغطاة بالثلوج في غرب آيسلندا، تقبع متاهة من المراوح التوربينية والأنابيب التي تنفث سحباً كثيفة من البخار. هذا البنيان الضخم مسؤول عن توفير الطاقة للبلد الذي يستمد كامل طاقته الكهربائية من مصادر الطاقة المتجددة.
تعد محطة هيليشيدي للطاقة الكهربائية، والتي تقع على بعد 25 كيلومتر خارج العاصمة الآيسلندية ريكيافيك، محطة الطاقة الحرارية الجوفية الرئيسية في آيسلندا، وهي واحدة من أكبر محطات توليد الطاقة في العالم.
تخاطبني مديرة المحطة، إيدا سيف أرادوتير بينما يتناثر الثلج وهي تضرب الأرض بحذائها قائلة: "هل تشعرين بالاهتزازات تحت أقدامنا؟". وتتابع: "إنه البخار الذي يدخل إلى التوربينات".
ليست هيلشيدي مجرد مزود متكامل للطاقة النظيفة، فهي أيضاً موقع لتحقيق إنجاز علمي؛ وهي عبارة عن تجربة لاحتجاز ثنائي أوكسيد الكربون (CO2) وتحويله إلى حجارة صلبة. وبالتالي إبعاد أحد غازات الدفيئة عن الغلاف الجوي، والتخفيف من حدة الاحتباس الحراري.
اقرأ أيضا:
تحويل ثنائي أوكسيد الكربون إلى صخور صلبة
تقول الدكتورة أرادوتير: "تحرق البشرية الوقود الأحفوري منذ قيام الثورة الصناعية، وقد وصلنا بالفعل إلى النقطة الحرجة بالنسبة لمستويات ثنائي أوكسيد الكربون". تتابع أرادوتير: "تمثل هذه الفكرة أحد الحلول التي يمكن تطبيقها لعكس ذلك".
هذا المشروع الذي يحمل اسم "كارب فيكس"، بادرت به مجموعة دولية بقيادة كل من الشركة "ريكيافيك إنيرجي"، والمركز الوطني الفرنسي للأبحاث العلمية، وجامعة آيسلندا، وجامعة كولومبيا، وبتمويل من الاتحاد الأوروبي.
منذ أن بدأت التجارب في العام 2014، يجري توسيع نطاقها من مشاريع تجريبية إلى حلول دائمة، تهدف إلى تنظيف ثلث انبعاثات المحطة من غاز الكربون.
تقول الدكتورة أرادوتير: "الأهم من ذلك، هو أننا نمثل ميدان تجارب يتم فيه اختبار طريقة يمكن تطبيقها في أماكن أخرى، سواء كانت محطة لتوليد الطاقة الكهربائية، أو صناعات ثقيلة، أو أي مصدر آخر من مصادر انبعاث غاز ثنائي أوكسيد الكربون".
إعداد الصودا
مع ارتفاع تراكيز غاز ثنائي أوكسيد الكربون في الجو، بدأ العلماء باختبار الحلول المبنية على فكرة "احتجاز الكربون وتخزينه" (اختصاراً CSS) منذ سبعينيات القرن الماضي.
ولكن كارب فيكس تتصدر تجارب CSS لأنها تزعم بأن احتجاز الكربون لديها دائم ويتم بسرعة.
تبدأ العملية باحتجاز ثنائي أوكسيد الكربون الذي ينبعث كناتج ثانوي عن البخار، لتتم إذابته بعد ذلك في كميات كبيرة من الماء.
تقول الدكتورة أرادوتير وهي تشير إلى محطة فصل الغاز، وهي عنبر صناعي يقع خلف التوربينات الصاخبة: "نحن نستخدم آلة عملاقة تنتج الصودا".
وتضيف: "ما يحدث هنا بشكل أساسي يشبه العملية التي تجري في مطبخك، فعندما تعد لنفسك بعض الماء الفوار، تضيف مادة فوارة إلى الماء".
ثم يتم ضخ السائل الفوار عبر الأنابيب إلى موقع الحقن الذي يقع على بعد 2 كيلومتر، وهو هيكل قباني يشبه الكوخ الثلجي في تصميمه الهندسي، ويبدو وكأنه من عالم آخر. ليتم ضخه من هناك نحو الأسفل مسافة 1,000 متر تحت سطح الأرض.
اقرأ أيضا:
خلال بضعة أشهر، ستعمل التفاعلات الكيمائية على تحويل ثنائي أوكسيد الكربون إلى صخر صلب، مما يحول دون تسربه من جديد إلى الغلاف الجوي لملايين السنين.
في هذا العمل الذي يبدو فذاً، تلعب الخصائص الجيولوجية للمنطقة دوراً رئيسياً.
صخور مسامية
يمثل البازلت المكون الأساسي للمناظر الطبيعية الخلابة التي تتميز بها آيسلندا، من الينابيع الحارة، والنوافير الطبيعية الحارة، وشواطئ الرمال السوداء. والبازلت عبارة عن صخور مسامية رمادية داكنة تتكون عندما تبرد الحمم البركانية.
ويعد البازلت "أفضل صديق" للكربون، لأنه يحتوي على كميات كبيرة من الكالسيوم، والمغنيزيوم، والحديد، والتي تتحد مع ثنائي أوكسيد الكربون الذي يتم ضخه لتساعد على التصلب والتحول إلى معدن.
من جهتها ساندرا سنيبيورنسدوتير الجيولوجية التي تعمل لصالح كارب فيكس، لديها دليل في حوزتها: وهي عينة أسطوانية تم استخراجها من الموقع، تظهر حجر البازلت وهو مرصع بعدد من البلورات الطباشيرية.
تقول ساندرا: "هذه التكتلات الصغيرة البيضاء عبارة عن كربونات، أو ثنائي أوكسيد الكربون المتمعدن. فصخور البازلت النقية تشبه قطع الإسفنج مع الكثير من التجاويف، والتي يملؤها ثنائي أوكسيد الكربون".
وتتابع ساندرا: "تعد آيسلندا بلداً واعداً على وجه الخصوص لهذا النوع من احتجاز الكربون وتخزينه، والسبب ببساطة هو كميات البازلت التي لديه".
في العام الماضي، تمكنت كارب فيكس من تحويل 10,000 طن من ثنائي أوكسيد الكربون إلى بلورات معدنية.
ومع ذلك، هذه النسبة تعد ضئيلة، فهي أقل من الانبعاثات التي تطلقها 650 سيارة بريطانية، أو 2,200 سيارة أميركية.
وتغدو نسبة العام الماضي أكثر ضآلة بالمقارنة مع كميات ثنائي أوكسيد الكربون التي يطلقها البشر المعاصرون إلى الغلاف الجوي سنوياً والتي تتراوح بين 30 و 40 جيجا طن (1 جيجا طن = مليار طن).
وعلى الرغم من أن النطاق الذي تنشط فيه كارب فيكس صغير نسبياً، إلا أن الخبراء يتوقعون إمكانية تكرار تجربتها بسهولة، وذلك بفضل انتشار البازلت في جميع أنحاء العالم.
تقول ساندرا: "في الواقع، يعد البازلت أكثر أنواع الصخور شيوعاً على سطح الأرض، فهو يغطي المساحة العظمى من قيعان المحيطات، ونحو 10% من مساحة القارات. فحيثما يوجد البازلت والماء، يمكن لهذا النموذج أن ينجح".
توجد مناطق بازلتية كبيرة في كل من سيبيريا، غرب الهند، المملكة العربية السعودية، وشمال غرب المحيط الهادي.
ويتطلع العلماء الآن إلى اختبار هذا النموذج على المحيطات للاستفادة من المساحات الكبيرة التي تشغلها التشكيلات البازلتية البحرية.
وفقاً لساندا، فإنه من المحتمل للبازلت أن يحل جميع مشاكل ثنائي أوكسيد الكربون في العالم، حيث تقول: "تعتبر سعة تخزين البازلت لها من القدرة بحيث أنه قادر، من الناحية الناظرية، على استيعاب إجمالي الجزء الأكبر من انبعاثات ثنائي أوكسيد الكربون الناجمة عن احتراق جميع كميات الوقود الأحفوري على كوكب الأرض، والاحتفاظ به بصورة دائمة".
حل شره للماء
في جامعة آيسلندا، يستمر إجراء الأبحاث بشأن ما تفعله كارب فيكس منذ مرحلتها التجريبية.
حيث توجد نسخة بحجم المكتب مطابقة للواقع من حيث الأنابيب والمضخات في هيليشيدي في مختبر متطور مجهز بأحدث المعدات، وهي تسمح للبروفيسور سيجوردور جيسلاسون بتفحص سير العملية.
يقول البروفيسور جيسلاسون موضحاً: "قبل بدء الحقن في كارب فيكس، كان هناك إجماع داخل المجتمع العلمي بأن الأمر سيستغرق من عشرات إلى آلاف السنين حتى يتمعدن ثنائي أوكسيد الكربون المحقون".
ويتابع البروفيسور: "لنكتشف بعدها أنه قد تمعدن بالفعل بعد 400 يوم".
جرت التفاعلات بسرعات أكبر بكثير مما كان متوقعاً، ويرجع ذلك جزئياً إلى كميات المياه الكبيرة التي استخدمت في إذابة ثنائي أوكسيد الكربون.
ولكن هذا يشير إلى أحد نقاط الضعف التي يعاني منها هذا المشروع، فهو يستهلك الكثير من الماء.
اقرأ أيضا:
يقول البروفيسور جيسلاسون: "تحتاج العملية إلى 25 طناُ من الماء لكل 1 طن من ثنائي أوكسيد الكربون". ويضيف: "في آيسلندا، ينعم الله علينا بالكثير من الأمطار، أما إذا كنت تطبق هذه العملية على المناطق البازلتية في الهند... فإن مياههم ثمينة للغاية".
يحذر بعض المنتقدين من أن الإصلاحات عالية التقنية مثل هذه تشكل خطراً أكبر، ألا وهو صرف انتباه الباحثين وعامة الناس عن الحاجة الملحة إلى أقصى حد، نحو تخفيض مستويات غازات الدفيئة.
في تقرير صدر مؤخراً، حذر المجلس الاستشاري العلمي للأكاديميات الأوروبية من أن مثل هذه التقنيات لديها "إمكانات واقعية محدودة" إذا لم يتم خفض الانبعاثات.
يقول البروفيسور جيسلاسون: "مشروع كارب فيكس ليس حلاً سحرياً. علينا أن خفض الانبعاثات وتطوير الطاقات المتجددة، وعلينا أن نطبق فكرة CSS باحتجاز الكربون وتخزينه أيضاً".
ويتابع: "علينا أن نغير أسلوب حياتنا، وهو ما ثبت أنه يصعب على الناس فهمه إلى حد بعيد".
الرسوم التوضيحية: جيلا داستمالشي
هذه المقالة مترجمة عن الموقع www.bbc.co.uk