لقد حفَّز تغير المناخ من انتشار الحشرات الضارة التي تلتهم المحاصيل الزراعية وتدمِّر المنازل وتبث الأمراض، والآن يتسبب ارتفاع درجات الحرارة في دفع الذباب الأزرق -الذي يتغذى على الجيف والجثث- للهجرة نحو الشمال سعياً وراء مناخ أبرد، مما يؤدي إلى أن يفقد خبراء الطب الشرعي حليفاً مميزاً في مساعدتهم على حل الجرائم.
وهذا الذباب الأزرق ينجذب إلى الجيف والجثث الميتة، الإنسانية منها والحيوانية على حد سواء، فتجده قد حطَّ على الجثث الحديثة في غضون دقائق فقط من موتها؛ حيث تقوم إناث هذا الذباب بتذوق سريع للجثة للتأكد من أنها ستكون طعاماً جيداً ليرقاتها أم لا، وبعد ذلك تضع عليها مئات البيوض، وحالما تفقس تلك البيوض، تبدأ اليرقات بالتهام الأنسجة الطرية، مما يسرِّع من عملية التحلل.
وبسبب قيام هذه الحشرات بذلك فإنها تعد وسائل رئيسية ضمن التحريات حول جرائم القتل؛ وذلك لأنها تساعد خبراء الطب الشرعي على التحديد الدقيق لوقت وفاة الميت. ولا غرابة إذن في أن يكون للذباب الأزرق سجلٌّ حافل من المساعدة الحاسمة التي قدمتها فيما لا يُحصى من تحريات جرائم القتل، مما مكَّن المحققين من تمييز المذنِب عن المشتبه به في تلك الجرائم.
وعلماء الحشرات العاملين في الميدان الشرعي يستطيعون الاستفادة من عون هذه الحشرات لأنهم يعرفون دورة حياتها في المنطقة التي يعيشون فيها، لكن في ظل الظروف الحالية من توجُّه الذباب الأزرق نحو الشمال، مدفوعاً بالارتفاع في درجات الحرارة وسعياً منه للعثور على موطن أكثر ملائمة، فمن الوارد أن تعاني التحقيقات والتحريات عن الجرائم من ثغراتٍ شتى، بسبب أن الذباب الجديد الذي سيأتي -والذي يشبه الذباب الأزرق لكنه ليس هو- سيُنتج نسلاً ينمو وفق جدول زمني مختلف عن يرقات الذباب الأزرق.
في منطقة الغرب الأوسط الأميركية على سبيل المثال، هناك نوع جديد من الذباب الأزرق -الذي يعيش عادة في الولايات الأميركية الجنوبية- بدأ يقيم هناك، وقد رصد الباحثون ذبابة لوسيليا كابرينا في الحدائق وغيرها من الأماكن العامة أكثر من عشرين مرة في ولاية إنديانا في الفترة من 2015 إلى 2017. ويشبه هذا النوع من الذباب كثيراً نوعه الشقيق المسمى علمياً بـ لوسيليا سيريكاتا (Lucilia sericata)، الذي ينتشر بكثرة في الولاية، إلا أن يرقات النوع الأول لا تتصرف مثل يرقات النوع الآخر، وهذا ما يعني أن الخلط بينهما قد يسبب الكثير من المشاكل لمحققي الجرائم.
وبهذا الصدد تقول كريستين بيكارد (الأستاذة المشاركة في علم الأحياء بكلية إنديانا بوليس للعلوم بجامعة إنديانا بوردو): "من الصعب جداً التفريق بين يرقتي كلا النوعين، ولذلك من المستحيل على المحقق الجنائي أن يكتشف بدقة كاملة توقيت الوفاة؛ ففي حال قلنا إن اليرقة تنتمي لنوع لوسيليا سيريكاتا مثلاً، وهي في الحقيقة تعود إلى نوع لوسيليا كابرينا، فمن الوارد أن يكون توقيت الوفاة المحدَّد يقع في زمن قبل الوقت الحقيقي الذي حدثت فيه الوفاة. وبالمثل فإن لكل نوع من الذباب دورة حياة تختلف زمنياً عن غيره، وهذا ما يطال أيضاً عمليات تحلل البقايا، ولذلك ينبغي على خبراء الطب الشرعي والمحققين أن يكونوا على دراية بوجود أنواع جديدة من الذباب، حتى لا يرتكبون أخطاء في خضم عملهم".
كما تقول الباحثة بيكارد (التي تدرس سلوك الذباب الأزرق في شتى بقاع العالم) إن أحد الباحثين في مختبرها هو الذي تعرف لأول مرة قبل عدة سنوات مضت على يرقة ذبابة زرقاء تعيش في إنديانا.
تقول بيكارد: "لقد كانت هناك ذبابة زرقاء في ولاية إنديانا، وهو أمر لم نشهده من قبل، ولذلك استرعى انتباهنا وتركيزنا؛ فشرعنا في عدد لا يحصى من عمليات جمع الذباب، ومن حسن الحظ أن عملية صيد الذباب الأزرق سهلة، فكل ما عليك فعله هو إعداد وعاء من اللحم الفاسد وشبكة لاصطياد الذباب، وقد أبهرتنا النتيجة إذ هتفنا: يا إلهي! ما هذا؟! ما الذي تفعلنه هنا أيتها الذبابات؟!".
ومن ناحية أخرى نجد أن الذباب الأزرق لا يعد غريباً في ولايات مثل فلوريدا وتكساس، لكن وجود هذا النوع من الذباب في ولاية إنديانا لم يكن متوقَّعاً. وبخصوص هذه الحالة بالذات، كانت هناك طالبة دكتوراه تقوم بعمليات الجمع الاعتيادية، حيث كانت تخرج كل أسبوعين في فصول الصيف لجمع الذباب في شتى أنحاء إنديانابوليس لإتمام أطروحتها العلمية، وقد وجدت بالفعل الذباب الأزرق، وأشارت إليه على أنه "نوع متطفل".
وبهذا الصدد، نشرت بيكارد وزملاؤها مؤخراً ورقة علمية تصف فيها ظهور الذباب الأزرق في ولاية إنديانا، وقد صدر المقال في مجلة "جورنال أوف إنسيكت ساينس (Journal of Insect Science)"، وتقول فيه بيكارد: "في ظل تغير درجات الحرارة واستمرارها في الارتفاع، سيستمر توزُّع هذه الحشرات أيضاً في التغير". وهي تتوقع أن يستمر الذباب الأزرق في هجرته نحو الشمال سعياً وراء مناخات أبرد ومصادر جديدة للطعام.
كما تؤكد أنه على الرغم من التقزُّز الذي يشعر به البشر تجاه هذه الحشرات، إلا أنها لا تلسع، "وباستثناء أن تلتقط أقدامها بعض البكتريا بشكل عَرَضي، ثم تحطُّ على بعض الأطعمة الطازجة التي نتناولها" فإنها لا تنقل الأمراض والأوبئة. وتصفها الباحثة بقولها: "إنها أدوات تستعملها الطبيعة لإعادة التدوير، فهي لا تسبِّب أي أضرار تذكر في الواقع".
"يبدو قوت الذباب الأزرق متوافراً بسهولة، إلا أن هذه الحشرات تعيش حقاً في بيئة شديدة التنافسية. ولأن مصدر غذائها الأساسي يتمثل في إيجاد مصدر ثمين -يتمثل في جثة حيوان ميت- فإن عليها أن تواجه منافسة الأنواع الأخرى من الذباب والحيوانات التي تقتات على الجيف، ولهذا فإن قدرتها الفريدة على إيجاد جثث الحيوانات الميتة والنمو بسرعة كبيرة عن طريق التغذي عليها تُعد ميزة تنافسية مهمة لها. ولأن هناك عدداً كبيراً من الحيوانات الميتة في العالم، سيواصل الذباب الأزرق توسُّعه وانتشاره، طالما أنها قادرة على الحياة والاستمرارية". وفي ظل تغير المناخ وارتفاع درجات الحرارة أصبح الذباب الأزرق قادراً على الوصول إلى مناطق كانت باردة جداً بالنسبة له فيما سبق.
وبهذا الشأن تقول بيكارد إن على "خبراء الطب الشرعي والمحققين ورجال التحري أن يكونوا على دراية، كما ينبغي على الجميع أن يهتم بهذا الموضوع"، مشيرةً إلى أنه على الرغم من عدم تميز الذباب الأزرق بالأذية وإيقاع الضرر، إلا أن الأنواع الأخرى من الذباب والحيوانات ليست كذلك. وهي تختم كلامها قائلة: "على الرغم من أن هذا النوع الحشري تحديداً لا ينقل الأمراض والأوبئة، إلا أن الأنواع الأخرى تفعل ذلك. فما دام الذباب الأزرق قد تمكَّن من توسيع مداه وانتشاره، فما من شك في أن الأنواع الأخرى الضارة بإمكانها فعل ذلك أيضاً".
مارلين سيمونز؛ كاتبة لدى مؤسسة نيكسوس ميديا، وهي وكالة أنباء مرخَّصة تغطي أخبار المناخ والطاقة والسياسة، الفنون والثقافة.