كيف أثّر تلوث الهواء في تواتر أحداث هطل الأمطار الغزيرة جداً؟

5 دقيقة
إذا أزلنا الهباء الجوي من الهواء، فسنخفض الآثار الصحية للتلوث الناجم عنها وننقذ الآلاف من الأمراض الرئوية والقلبية، لكننا قد نتسبب بتفاقم آثار الاحتباس الحراري في الوقت نفسه. ديبوزيت فوتوز
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

شهد نصف القرن الماضي تحسناً ملحوظاً في جودة الهواء في مناطق كثيرة من العالم، ويعود ذلك بأغلبه إلى التشريعات مثل مشروعات قانون الهواء النظيف الأميركي. استهدفت هذه الجهود الملوثات مثل مجموعة المواد الكيميائية التي تحمل اسم “الهباء الجوي“، التي تشمل ثنائي أوكسيد الكبريت وثنائي أوكسيد النيتروجين ومركّبات أخرى تضر بصحة الإنسان.

مثل غازات الدفيئة، ينتج الهباء الجوي عن السيارات والمصانع ومحطات توليد الطاقة، ولكنه يختلف في أنه يبرّد الأرض بدلاً من أن يسخّنها. يعود ذلك إلى أن جسيمات الهباء الجوي تعكس أشعة الشمس بدلاً من أن تحبس حرارتها مثل الكربون. قدّرت بعض الدراسات أنه من المحتمل أن درجة الحرارة الوسطية العالمية كانت سترتفع بمقدار نصف درجة مئوية عما هي الآن لولا التلوث بجسيمات الهباء الجوي.

اقرأ أيضاً: كيف يستنزف التلوث المياه العذبة؟

صفقة فاوستيّة: مفارقة الهباء الجوي وتلوث الهواء

يخلق ذلك مفارقة صعبة الحل وصفها عالم المناخ الشهير، جيمس هانسن، بأنها “صفقة فاوستيّة”. إذا أزلنا الهباء الجوي من الهواء، فسنخفض الآثار الصحية للتلوث الناجم عنها وننقذ الآلاف من الأمراض الرئوية والقلبية، لكننا قد نتسبب بتفاقم آثار الاحتباس الحراري في الوقت نفسه. تجلّت هذه العلاقة البليغة التأثير في قطاع الشحن البحري على مدى السنوات القليلة الماضية؛ إذ توقفت سفن الشحن عن إصدار انبعاثات ثنائي أوكسيد الكبريت مع توقّف استخدام وقود السفن القذر (زيت الوقود الثقيل) منذ عام 2020، ما تسبب بارتفاع درجات الحرارة العالمية بمقدار 0.05 درجة مئوية إضافية.

والآن، يبيّن بحث جديد أن التفاعل بين الهباء الجوي وغازات الدفيئة يؤثر أيضاً في الفيضانات، وهي من أكثر الكوارث المناخية التي تتسبب بخسائر مادية. اكتشف الباحثون في ورقة بحثية خضعت لمراجعة الأقران ونُشرت بتاريخ 22 فبراير/شباط 2024 في مجلة نيتشر كوميونيكيشنز (Nature Communications) أن وجود الهباء الجوي السام في الغلاف الجوي فوق الولايات المتحدة ساعد على تخفيف شدة تأثيرات التغير المناخي في معدل هطل الأمطار على مر عقود من الزمن، ما أدى إلى تأخير الزيادة في كل من معدل هطل الأمطار وخطر حدوث الفيضانات الناجمة عن التغير المناخي. المفارقة هي أن إقرار قوانين الهواء النظيف التي أزيل بموجبها الهباء الجوي من الغلاف الجوي تسبب بظهور نمط يتّسم بتفاقم الفيضانات.

الهباء الجوي ساعد على درء الكثير من المخاطر المناخية

تساعد نتائج الورقة البحثية الجديدة على حل لغز في علم المناخ. على الرغم من أن الهواء الأكثر دفئاً يتمتّع برطوبة أكبر، لم ترتفع معدلات هطل الأمطار في الولايات المتحدة بالدرجة التي توقعها العلماء مع ارتفاع درجات الحرارة.

قالت أستاذة علوم الأرض المساعدة في جامعة تكساس في مدينة أوستن وخبيرة الهباء الجوي، غيتا بيرساد، التي لم تشارك في الدراسة الجديدة: “تسلط هذه الورقة البحثية الضوء على أن هذه المُعاكَسة بين الهباء الجوي وغازات الدفيئة أخفت على الأرجح الكثير من المخاطر المناخية على مدى العقود القليلة الماضية.

ويمكن أن ينكشف العديد من هذه المخاطر المناخية غير المتوقعة خلال العقود القليلة القادمة إذا انخفضت انبعاثات الهباء الجوي بمقدار كبير ولم تنخفض انبعاثات غازات الدفيئة”.

استخدم الباحثون في الورقة البحثية بيانات جمعتها آلاف أجهزة قياس الأمطار لتحديد تأثير الهباء الجوي وغازات الدفيئة في معدلات هطل الأمطار الوسطية وتواتر أحداث هطل الأمطار المتطرفة. وأتاح لهم ذلك تحديد كيف يوازن نوعا التلوث الناجمان عن البشر أحدهما الآخر في مناطق مختلفة من الولايات المتحدة.

تتراكم غازات الدفيئة في الغلاف الجوي منذ أكثر من قرن من الزمن، ولها تأثير بسيط الفهم للغاية في معدل هطل الأمطار. ترتفع درجة حرارة الغلاف الجوي مع ازدياد نسب ثنائي أوكسيد الكربون فيه، وتزداد قدرته على الاحتفاظ بالرطوبة مع ارتفاع درجة حرارته. مسألة الهباء الجوي أعقد؛ إذ تتفاعل هذه الجسيمات بطريقة مختلفة مع أنواع مختلفة من السحب، ما يؤدي إلى تفاوت تأثيرها في معدل هطل الأمطار من منطقة إلى أخرى ومن موسم إلى آخر. تسببت هذه الجسيمات بزيادة الجفاف في أغلبية مناطق الولايات المتحدة.

اقرأ أيضاً: تلوث الهواء: الكارثة التي تهدد عشرات المدن المتنامية

وأدى إقرار قانون الهواء النظيف البارز في عام 1970 إلى انخفاض سريع في التلوث الناجم عن الهباء الجوي؛ إذ رُكّبت أجهزة تنقية الهواء في المصانع لتنظيف المداخن وحدّثت الشركات المصنعة للسيارات سياراتها لتتوافق مع حدود الانبعاثات المسموح بها. أدى اختفاء الهباء الجوي إلى هيمنة غازات الدفيئة على الغلاف الجوي، ما أدى إلى زيادة معدلات هطل الأمطار تدريجياً. يجادل مؤلفو الورقة البحثية بأنه لو لم تكن جسيمات الهباء الجوي تلك موجودة، فمن المحتمل أن معدلات هطل الأمطار والفيضانات في الولايات المتحدة كانت ستبدأ الارتفاع قبل عدة عقود.

بالإضافة إلى ذلك، يتيح فصل تأثير الهباء الجوي عن تأثير غازات الدفيئة للباحثين وضع تنبؤات حول تغيّر خطر حدوث الفيضانات خلال العقد القادم. تمكّن الباحثون من ذلك بالفعل، والنتائج لا تبدو مسرّة؛ إذ سيشهد العديد من مناطق البلاد ارتفاعاً في نسب الرطوبة والمزيد من العواصف الهائلة في غياب جسيمات الهباء الجوي التي كان تأثيرها يوازن تأثير الاحتباس الحراري للغازات مثل ثنائي أوكسيد الكربون والميثان.

قال عالم الأبحاث في مختبر لورانس بيركلي الوطني وأحد المؤلفين الرئيسيين للورقة البحثية، مارك ريسر: “هذا الازدياد السريع نسبياً في شدة أحداث هطل الأمطار المتطرفة هو الوضع الطبيعي الجديد، وسيبقى كذلك على مدار السنوات الخمس المقبلة على الأقل”.

الهباء الجوي يمكن أن يعوّق أيضاً حدوث العواصف المدارية

يتجلّى التأثير على نحو أوضح في جنوب شرق الولايات المتحدة، حيث تسبب عدد كبير من الأعاصير والعواصف المطرية بأضرار ناجمة عن الفيضانات قيمتها مليارات الدولارات في السنوات الأخيرة. اكتشف المؤلفون أن التلوّث الناجم عن الهباء الجوي أدى إلى انخفاض معدل هطل الأمطار في الصيف والخريف حتى أواخر القرن العشرين، عندما بدأ تأثير غازات الدفيئة يهيمن على المنطقة. أدى ذلك إلى ارتفاع معدل هطل الأمطار السنوي وزيادة في تواتر العواصف المطرية الكبيرة. (بيّن العلماء في أبحاث سابقة أن الهباء الجوي يمكن أن يعوّق أيضاً حدوث العواصف المدارية من خلال إحداث اضطراب في عملية تشكل السحب).

يمكن أن يكون تأثير نتائج الورقة البحثية الجديدة في القوانين المتعلقة بالبيئة كبيراً خلال العقود القليلة القادمة. تسارع وكالة حماية البيئة في ظل إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، لوضع اللمسات الأخيرة على قوانين صارمة حول التلوث الصناعي يمكن أن تؤدي إلى انخفاض انبعاثات ملوثات الهباء الجوي الرئيسية مثل ثنائي أوكسيد الكبريت. ستُطبّق هذه القوانين إذا دخلت حيز التنفيذ على العديد من المنشآت في الجنوب الشرقي للبلاد، مثل المنشآت البتروكيماوية في منطقة “زقاق السرطان” في ولاية لويزيانا.

ستحمي هذه القوانين السكان الذين يعيشون بالقرب من المنشآت الصناعية من الربو وأمراض القلب والسرطان، ولكن يمكن أن يتسبب الانخفاض الإضافي في نسب جسيمات الهباء الجوي بتفاقم موسم الأعاصير لأنه سيزيد كمية الرطوبة التي تستطيع العواصف الكبيرة الاحتفاظ بها، ما سيؤدي إلى وقوع المزيد من الأحداث مثل إعصار هارفي الذي ضرب البلاد في عام 2017 وأذهل علماء المناخ لأنه تسبب بهطل مطري تجاوز 127 سنتيمتراً في مدينة هيوستن في ولاية تكساس.

تقول بيرساد إن الورقة البحثية الجديدة تمثّل تحذيراً مروعاً بشأن المخاطر المناخية التي سنواجهها في المستقبل. إذا انخفضت نسب تلوّث الهواء في الولايات المتحدة خلال العقود القليلة المقبلة، فقد يشهد عدد أكبر من الأميركيين في مناطق مثل الجنوب الشرقي عواصف وفيضانات أشدّ.

اقرأ أيضاً: كيف يؤثر تلوث الهواء على إنتاج النباتات وأمننا الغذائي؟

قالت بيرساد: “يبدو وفقاً للظروف الحالية أننا سنواجه خيارين خلال العقود الثلاثة المقبلة، إما ستبقى آثار الاحتباس الحراري متخفية، أو سيزداد معدل الاحتباس بنسبة 50%. حتى الآن، لم يدرك العلماء بعمق مدى تأثير تطور إشارة الهباء الجوي هذه خلال فترة تقابل عمر رهن عقاري لمنزل اشتراه شخص ما اليوم في المخاطر المناخية التي يتعرض لها هذا الشخص”.