جائزة نوبل في الفيزياء 2021 لأبحاث المناخ ونظرية الفوضى

13 دقيقة
جائزة نوبل في الفيزياء 2021 جورجيو باريزي، كلاوس هسلمان، شكورو مانابي
العلماء الذين حصلوا على جائزة نوبل في الفيزياء 2021: جورجيو باريزي، كلاوس هسلمان، شكورو مانابي

يتقاسم ثلاثة علماء جائزة نوبل في الفيزياء 2021 لدراساتهم للظواهر المعقدة. وضع «شكورو مانابي» و«كلاوس هَسلمان» أسس فهمنا لمناخ الأرض وكيف يؤثر البشر عليه. أما «جورجيو باريزي» كانت له مساهماته الثورية في نظرية الفوضى التي تصف المواد غير المنتظمة والعمليات العشوائية.

تتكون جميع الأنظمة المعقدة من العديد من الأجزاء المختلفة المتفاعلة. دُرست هذه الأنظمة من قبل علماء الفيزياء لبضعة قرون، ويمكن أن يكون وصفها رياضياً أمراً صعباً؛ إذ أنها قد تحتوي على عدد هائل من المكونات أو قد تكون محكومةً بالصدفة. يمكن أن تكون أيضاً عشوائيةً؛ مثل الطقس الذي تؤدي فيه الانحرافات الصغيرة في القيم الأولية إلى اختلافات كبيرة في مرحلة لاحقة. لقد ساهم جميع الفائزين بجائزة نوبل في الفيزياء لهذا العام في منحنا فهماً أعمق لمثل هذه الأنظمة وتطورها على المدى الطويل.

يُعتبر مناخ الأرض إحدى الأمثلة العديدة للأنظمة المعقدة. حصل «مانابي» و«هسلمان» على نصف جائزة نوبل لعملهما الرائد في تطوير النماذج المناخية، بينما حصل باريزي على النصف الآخر بسبب إيجاده الحلول النظرية لمجموعة واسعة من المشاكل في نظرية الأنظمة المعقدة.

بيّن شكورو مانابي كيف أن زيادة تركيز ثنائي أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي تؤدي إلى زيادة درجات الحرارة على سطح الأرض. في ستينيات القرن الماضي، قاد مانابي عملية تطوير النماذج الفيزيائية لمناخ الأرض، وكان أول شخص يستكشف التفاعل بين توازن الإشعاع والنقل الرأسي للكتل الهوائية، وقد وضعت أبحاثه الأسس لتطوير النماذج المناخية.

بعد حوالي 10 سنوات، طور كلاوس هسلمان نموذجاً يربط بين الطقس والمناخ؛ ما سمح له بأن يفسّر حقيقة أن النماذج المناخية يمكن أن تكون موثوقةً على الرغم من أن الطقس متغيّر وعشوائي. طوّر هسلمان أيضاً آليات لتحديد إشارات وبصمات معينة تُحدثها الظواهر الطبيعية والأنشطة البشرية في المناخ. استُخدمت الآليات التي طورها لإثبات أن ارتفاع درجة حرارة الغلاف الجوي ينتج عن انبعاثات ثنائي أوكسيد الكربون التي ينتجها البشر.

قُبيل عام 1980، اكتشف «جورجيو باريزي» أنماطاً مخفيّةً في المواد المعقدّة غير المنتظمة. تُعتبر اكتشافاته من الإسهامات الأكثر أهميةً لنظرية الأنظمة المعقدة؛ إذ أنها تسمح لنا بفهم ووصف العديد من المواد والظواهر المختلفة التي تبدو عشوائيةً تماماً. لا تقتصر هذه الاكتشافات على الفيزياء؛ بل يمكن تطبيقها في مناحٍ أخرى مختلفة للغاية؛ مثل الرياضيات وعلم الأحياء وعلم الأعصاب وتعلّم الآلة.

اقرأ أيضا: هل تضر السيارات الكهربائية بالمناخ؟

«تأثير الدفيئة» هو أمر ضروري للغاية للحياة

قبل 200 عام، درس الفيزيائي الفرنسي «جوزيف فورييه» توازن الطاقة بين إشعاع الشمس تجاه الأرض والإشعاع من الأرض. لقد فهم دور الغلاف الجوي في هذا التوازن؛ إذ أنه على سطح الأرض، يتحول الإشعاع الشمسي الوارد إلى إشعاع صادر (يُدعى «الحرارة المظلمة») يمتصه الغلاف الجوي؛ وبالتالي يُسخنه. إن الدور الواقي للغلاف الجوي يسمى الآن «تأثير الدفيئة» (الاحتباس الحراري). يأتي هذا الاسم من تشابه هذه الظاهرة مع الألواح الزجاجية للبيوت الزجاجية؛ والتي تسمح بمرور أشعة الشمس المُدفّئة، وتحبس الحرارة في الداخل. مع ذلك، فإن العمليات الإشعاعية في الغلاف الجوي أكثر تعقيداً بكثير.

مهمة الفيزيائيين بقيت كما هي، وهي نفسها التي حاول فورييه إنجازها: فهم التوازن بين الإشعاع الشمسي ذي الموجة القصيرة القادم نحو كوكبنا والأشعة تحت الحمراء ذات الموجات الطويلة الصادرة من الأرض. أُضيفت الكثير من التفاصيل من قبل العديد من علماء المناخ على مدى القرنين التاليين. النماذج المناخية المعاصرة هي أدوات مفيدة بشكلٍ مذهل، ليس فقط لفهم المناخ؛ ولكن أيضاً لفهم احترار الأرض الذي يتحمل البشر مسؤوليته.

تستند هذه النماذج إلى قوانين الفيزياء، وقد تم تطويرها من نماذج استُخدمت للتنبؤ بالطقس. يوصف الطقس بكلمات مثل درجة الحرارة أو معدل هطول الأمطار أو الرياح أو السحب، وهو يتأثر بما يحدث في المحيطات وعلى اليابسة. تعتمد النماذج المناخية على الخصائص الإحصائية المحسوبة للطقس؛ مثل القيم المتوسطة، والانحرافات المعيارية، والقيم العليا أو الدنيا المقاسة، وما إلى ذلك. لا يمكن لهذه الخصائص أن تُعلمنا بما سيكون عليه الطقس في ستوكهولم في 10 ديسمبر/ كانون الأول من العام المقبل؛ ولكن يمكننا باستخدامها الحصول على فكرة عن درجة الحرارة أو مقدار هطول الأمطار الذي يمكن أن نتوقعه في المتوسط في ستوكهولم في ذلك الشهر.

إثبات دور ثنائي أوكسيد الكربون

تأثير الدفيئة ضروري للحياة على الأرض؛ إذ أنه يتحكم في درجة الحرارة لأن غازات الدفيئة في الغلاف الجوي (ثنائي أوكسيد الكربون والميثان وبخار الماء وغازات أخرى) تمتص أولاً الأشعة تحت الحمراء التي تصدرها الأرض، ثم تطلق هذه الطاقة الممتصة؛ ما يؤدي إلى تسخين الهواء المحيط والأرض تحته.

في الواقع؛ تشكل غازات الدفيئة نسبةً صغيرةً جداً من غازات الغلاف الجوي الجاف للأرض؛ والذي يتألف بأغلبه من النيتروجين والأوكسجين (بنسبة 99% من حيث الحجم)، كما يُشكل ثنائي أوكسيد الكربون نسبة 0.04% فقط من حجم الغلاف الجوي. أقوى غازات الدفيئة هو بخار الماء؛ لكن لا يمكننا التحكم في تركيز بخار الماء في الغلاف الجوي، بينما يمكننا التحكم في تركيز ثنائي أوكسيد الكربون.

كمية بخار الماء في الغلاف الجوي تعتمد بشكلٍ كبير على درجة الحرارة؛ ما يؤدي إلى آلية تغذية راجعة. كلما زادت نسبة ثنائي أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي، يصبح هذا الأخير أكثر دفئاً؛ ما يسمح باحتجاز المزيد من بخار الماء في الهواء؛ والذي يزيد من تأثير الاحتباس الحراري ويزيد من ارتفاع درجات الحرارة. إذا انخفض مستوى ثنائي أوكسيد الكربون؛ سيتكثّف بعض بخار الماء وتنخفض درجة الحرارة.

حل الباحث السويدي الحائز على جائزة نوبل «سفانتي أرينيوس»، الجزء الأول المهم من لغز تأثير ثنائي أوكسيد الكربون، وقد كان زميله عالم الأرصاد الجوية «نيلز إيكهولم»، أول من استخدم كلمة «دفيئة» في عام 1901 لوصف تخزين الغلاف الجوي للحرارة وإعادة إصدارها.

فهم أرينيوس الأسباب الفيزيائية وراء تأثير الاحتباس الحراري بحلول نهاية القرن التاسع عشر؛ والتي تنص على أن الإشعاع الصادر يتناسب طردياً مع درجة الحرارة المطلقة للجسم المشع مرفوعاً للأُس 4. كلما كان مصدر الإشعاع أكثر سخونةً، كان الطول الموجي للأشعة أقصر. تبلغ درجة حرارة سطح الشمس 6,000 درجة مئوية، وهي تطلق أشعةً تنحصر أطوالها في الطيف المرئي بشكل أساسي. الأرض؛ والتي تبلغ درجة حرارة سطحها 15 درجة مئوية فقط، تعيد إصدار الأشعة تحت الحمراء غير المرئية، وإذا لم يمتص الغلاف الجوي هذا الإشعاع؛ ستتجاوز درجة حرارة السطح بالكاد -18 درجة مئوية.

في الواقع؛ كان أرينيوس يحاول معرفة ظاهرة العصور الجليدية المكتشفة مؤخراً، وتوصّل إلى استنتاج مفاده أنه إذا انخفض مستوى ثنائي أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي إلى النصف، فسيكون هذا كافياً لدخول الأرض في عصر جليدي جديد. والعكس صحيح، فإن مضاعفة كمية ثنائي أوكسيد الكربون من شأنها أن تزيد درجة الحرارة بمقدار 5-6 درجات مئوية؛ وهي نتيجة قريبة -من باب الصدفة إلى حد ما- بشكل مذهل من التقديرات الحالية.

اقرأ أيضا: ما هي إيجابيات تغير المناخ؟

النموذج الرائد لقياس آثار ثنائي أوكسيد الكربون

في خمسينيات القرن الماضي، كان عالم فيزياء الغلاف الجوي الياباني «شكورو مانابي»، أحد الباحثين الشباب الموهوبين في طوكيو الذين غادروا اليابان -التي دمرتها الحرب- وأكملوا حياتهم المهنية في الولايات المتحدة. كان الهدف من أبحاث مانابي -مثل بحث أرينيوس قبل حوالي 70 عاماً- هو فهم كيف يمكن أن تؤدي زيادة مستويات ثنائي أوكسيد الكربون إلى زيادة درجات الحرارة. مع ذلك؛ بينما ركز أرينيوس على توازن الإشعاع، قاد مانابي في الستينيات العمل على تطوير نماذج فيزيائية تأخذ بعين الاعتبار النقل الرأسي للكتل الهوائية الناجم عن الحمل الحراري، والحرارة الكامنة لبخار الماء.

لجعل هذه الحسابات ممكنة؛ اختار مانابي تطبيق نموذجه في فضاء ذو بعد واحد فقط، وهو عامود يصل ارتفاعه إلى 40 كيلومتراً في الغلاف الجوي. مع ذلك، فقد استغرق الأمر مئات من ساعات الحوسبة لاختبار النموذج من خلال تغيير مستويات الغازات في الغلاف الجوي. كان لغازيّ الأوكسجين والنيتروجين تأثيرات ضئيلة على درجة حرارة السطح، بينما كان لثنائي أوكسيد الكربون تأثير واضح: عندما تضاعف مستوى هذا الغاز، ازدادت درجة الحرارة بمقدار تجاوز درجتين مئويتين.

أكّد النموذج أن هذا التسخين كان فعلاً ناجماً عن زيادة ثنائي أوكسيد الكربون، لأنه تنبأ بارتفاع درجات الحرارة بالقرب من الأرض بينما يصبح الغلاف الجوي العلوي أكثر برودةً. إذا كانت الاختلافات في الإشعاع الشمسي مسؤولةً عن زيادة درجة الحرارة بدلاً من ذلك، فيجب أن يكون الغلاف الجوي بأكمله يسخن في نفس الوقت.

قبل 60 عاماً، كانت الحواسيب أبطأ بمئات الآلاف من المرات مما هي عليه الآن، لذلك كان هذا النموذج بسيطاً نسبياً؛ لكن مانابي توصّل إلى نتائجَ صحيحة في جميع الأحوال. يقول مانابي أن التبسيط لازمٌ دوماً؛ لا يمكننا أن نتغلّب على تعقيد الطبيعة، فهناك الكثير من قوانين الفيزياء وراء سقوط كل قطرة مطر لدرجة أنه لن يكون من الممكن أبداً حساب كل شيء. أدت الأفكار المستمدة من النموذج أحادي البعد إلى نموذج مناخي ثلاثي الأبعاد؛ وهو نموذج نشره مانابي في عام 1975. مثّل هذا النموذج مرحلة مهمةً أخرى على الطريق الذي يؤدي إلى فهم أسرار المناخ.

الطقس عشوائي

بعد حوالي 10 سنوات، نجح كلاوس هسلمان في الربط بين الطقس والمناخ من خلال إيجاد طريقة لحساب التغيرات المناخية السريعة والعشوائية التي كانت صعبة القياس للغاية. يخضع طقس كوكبنا إلى تحولات هائلة لأن الإشعاع الشمسي موزع بشكلٍ غير متساوٍ، جغرافياً وعلى مر الزمن. الأرض كروية تقريباً، لذا فإن نسبة أقل من أشعة الشمس تصل إلى خطوط العرض العليا من تلك الموجودة في الأسفل حول خط الاستواء. ليس هذا فقط؛ ولكن محور الأرض مائل؛ ما يتسبب بحدوث اختلافات موسمية في الإشعاع الوارد. تتسبب الاختلافات في الكثافة بين الهواء الأكثر دفئاً والأكثر برودةً في حدوث عمليات نقل هائلة للحرارة بين خطوط العرض المختلفة، وبين المحيط والأرض، وبين الكتل الهوائية الأعلى والأدنى؛ ما يتسبب بتغير الطقس في كوكبنا.

كما نعلم جميعاً، فإن إجراء تنبؤات موثوقة حول الطقس لفترة تتجاوز الـ 10 أيام القادمة يمثل تحدياً صعباً. قبل 200 عام، صرّح العالم الفرنسي الشهير «بيير سيمون دي لابلاس» أنه إذا عرفنا موقع وسرعة جميع الجسيمات في الكون، فيجب أن يكون من الممكن حساب كل ما حدث وما سيحدث في العالم. من حيث المبدأ، فمن المفترض أن يكون هذا صحيحاً؛ إذ أن قوانين الحركة التي وضعها نيوتن منذ 3 قرون؛ والتي تصف أيضاً النقل الهوائي في الغلاف الجوي، هي حتمية تماماً- أي أنها ليست محكومةً بالصدفة.

مع ذلك، فهذا الكلام خاطئ تماماً عندما يتعلق الأمر بالطقس. يرجع ذلك جزئياً إلى أنه من المستحيل عملياً أن تكون دقيقاً بدرجة كافية لتحديد درجة حرارة الهواء أو الضغط أو الرطوبة أو ظروف الرياح لكل نقطة في الغلاف الجوي. وأيضاً، فالمعادلات التي تصف الطقس هي معادلات غير خطيّة؛ أي يمكن للانحرافات الصغيرة في القيم الأولية أن تجعل نظام الطقس يتغيّر بطرق مختلفة تماماً.

استناداً إلى سؤال ما إذا كانت رفرفة جناحيّ فراشة في البرازيل يمكن أن تسبب إعصاراً في تكساس، فقد سُميت هذه الظاهرة «أثر  الفراشة». عملياً؛ هذا يعني أنه من المستحيل القيام بتنبؤات جوية طويلة الأجل، فالطقس عشوائي. تم القيام بهذا الاكتشاف في الستينيات من قبل عالم الأرصاد الجوية الأميركي «إدوارد لورنز»؛ والذي وضع أسس نظرية الشواش الرائجة اليوم.

محاولة فهم البيانات الشواشيّة

كيف يمكننا إنتاج نماذج مناخية موثوقة تتنبّأ بالمناخ لعدة عقود أو لمئات السنين في المستقبل علماً أن الطقس يُعتبر مثالاً نموذجياً على الأنظمة العشوائية؟ قُبيل عام 1980، أظهر كلاوس هسلمان كيف يمكن وصف ظواهر الطقس المتغيرة بشكل عشوائي بأنها شواش متغير بسرعة؛ ما سمح له بأن يبني تنبؤات مناخيةً طويلة الأجل على أسس علمية متينة. علاوةً على ذلك؛ طوّر هسلمان طرقاً لقياس تأثير الإنسان على درجة الحرارة العالمية المرصودة.

كطالب شاب في مرحلة الدكتوراه في الفيزياء في هامبورغ - ألمانيا، فخلال خمسينيات القرن الماضي، عمل هسلمان في مجال ديناميكيات الموائع، ثم بدأ في تطوير ملاحظات ونماذج نظرية لأمواج وتيارات المحيطات. انتقل هسلمان إلى كاليفورنيا واستمر في دراسة علم المحيطات؛ حيث التقى بزملاء مثل «تشارلز ديفيد كيلينغ» الذي أنشأت معه عائلة هسلمان جوقة مادريغاليّة (المارديغال هو إحدى أنواع الغناء، ويُعتبر بمثابة البذرة الأولى لفن الأوبرا). يُعتبر كيلينغ أسطورةً في المجتمع العلمي لأنه بدأ في عام 1958 بسلسلة تُعتبر الأطول الآن من قياسات لنسب ثنائي أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي في مرصد «مونا لوا» في هاواي. لم يعرف هسلمان أنه سيستخدم في أبحاثه اللاحقة ما يُدعى بـ «منحنى كيلينغ» بشكلٍ متكرر، وهو منحنىً يُظهر التغيرات في مستويات ثنائي أوكسيد الكربون.

يمكن توضيح فكرة تطوير نموذج مناخي من بيانات الطقس الشواشية من خلال عملية تمشية كلب: يجري الكلب في المقدمة، وللخلف والأمام، ومن جانب إلى جانب حول ساقيك. كيف يمكنك استخدام آثار أقدام الكلب لمعرفة ما إذا كنت تمشي أم لا تزال واقفاً؟ أو إذا كنت تمشي بسرعة أو ببطء؟ آثار أقدام الكلب هي التغيرات في الطقس، ومسارك هو المناخ المحسوب. هل من الممكن حتى استخلاص استنتاجات حول الأنماط المناخية على المدى الطويل باستخدام بيانات الطقس الشواشية؟

تتمثل إحدى الصعوبات الإضافية في أن التقلبات التي تؤثر على المناخ متغيرة للغاية بمرور الوقت؛ إذ أنها قد تكون سريعةً - مثل قوة الرياح أو درجة حرارة الهواء، أو بطيئةً جداً؛ مثل ذوبان الصفائح الجليدية واحترار المحيطات. على سبيل المثال: قد يستغرق تسخين المحيطات المنتظم بمقدار درجة واحدة فقط ألف عام؛ ولكن التسخين المنتظم للغلاف الجوي يستغرق بضعة أسابيع. كانت الحيلة الحاسمة هي تضمين التغيرات السريعة في الطقس في الحسابات كضوضاء، وإظهار كيف تؤثر هذه الضوضاء على المناخ.

ابتكر هسلمان نموذجاً مناخياً عشوائياً؛ ما يعني أن الصُدف مدمجة في النموذج. استلهم هسلمان هذا النموذج من نظرية «ألبرت أينشتاين» في الحركة البراونية؛ والتي تسمى أيضاً «السير العشوائي». باستخدام هذه النظرية؛ أوضح هسلمان أن الغلاف الجوي سريع التغير يمكن أن يتسبب في الواقع في تغيرات بطيئة في المحيط.

آثار مميزة لتأثيرات البشر

بمجرد الانتهاء من نموذج التغيرات المناخية، طوّر هسلمان طرقاً لتحديد تأثير الإنسان على النظام المناخي. وجد هسلمان أن النماذج -إلى جانب الأرصاد والاعتبارات النظرية- تحتوي على معلومات كافية حول خصائص الضوضاء والإشارات. على سبيل المثال: التغيرات في الإشعاع الشمسي أو الجسيمات البركانية أو مستويات غازات الدفيئة تترك إشارات فريدةً وبصمات يمكن عزلها. يمكن أيضاً تطبيق هذه الطريقة لتحديد البصمات على تأثير البشر على نظام المناخ، وهكذا مهّد هسلمان الطريق لإجراء المزيد من الدراسات حول تغير المناخ؛ والتي أظهرت وجود آثار لتأثير الإنسان على المناخ باستخدام عدد كبير من الأرصاد المستقلة.

أصبحت النماذج المناخية مُحسّنةً بشكلٍ متزايد مع ازدياد دقة تفصيل العمليات المتضمنة في التفاعلات المعقدة للمناخ بشكلٍ خاص؛ من خلال قياسات الأقمار الصناعية وأرصاد الطقس. تُظهر النماذج بوضوح ازدياد تأثير الاحتباس الحراري؛ إذ أنه منذ منتصف القرن التاسع عشر، زادت مستويات ثنائي أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بنسبة 40%. لم يكن الغلاف الجوي للأرض يحتوي على هذا القدر من ثنائي أوكسيد الكربون لمئات الآلاف من السنين. طبقاً لذلك؛ تُظهر قياسات درجة الحرارة أن درجة حرارة الكوكب ارتفعت بمقدار درجة مئوية واحدة على مدار الـ 150 عاماً الماضية.

ساهم كل من شكورو مانابي وكلاوس هسلمان -بروح ألفريد نوبل- في تحقيق فائدة للبشرية، وذلك من خلال توفير أسس مادية متينة لفهمنا لمناخ الأرض. لم نعد قادرين على القول إننا لم نكن نعرف أننا نؤثر على المناخ، فالنماذج المناخية لا لُبس فيها.

هل الأرض تسخن؟ نعم.
هل السبب هو زيادة كميات غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي؟ نعم.
هل يمكن تفسير ذلك فقط بالعوامل الطبيعية؟ لا.
هل الانبعاثات البشرية هي سبب ارتفاع درجة الحرارة؟ نعم.

آليات لفهم الأنظمة غير المنتظمة

قبيل عام 1980، قدّم جورجيو باريزي اكتشافاته التي تبين أن الظواهر العشوائية تُحكم بقواعد خفية. يُعتبر عمله الآن من بين أهم المساهمات في نظرية الأنظمة المعقدة.

تعود جذور الدراسات الحديثة للأنظمة المعقدة إلى الميكانيكا الإحصائية التي تم تطويرها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على أيدي العلماء «جيمس سي. ماكسويل» و«لودفيغ بولتزمان» و«جاي. ويلارد غيبس»؛ والذين أطلقوا على هذا الحقل اسمه في عام 1884. تطورت الميكانيكا الإحصائية من فكرة تنص على أن إيجاد آلية جديدة لوصف أنظمة مثل الغازات أو السوائل التي تتكون من أعداد كبيرة من الجسيمات هو أمر ضروري. كان على هذه الآلية أن تأخذ الحركات العشوائية للجسيمات في عين الاعتبار، لذلك كانت الفكرة الأساسية هي حساب متوسط تأثير الجسيمات بدلاً من دراسة كل جسيم على حدى. على سبيل المثال: درجة الحرارة في الغاز هي مقياس لمتوسط قيمة طاقة جزيئات الغاز. الميكانيكا الإحصائية هي نظرية ناجحة للغاية، لأنها تقدم تفسيراً كِبريّاً للخصائص الصِغريّة للغازات والسوائل؛ مثل درجة الحرارة والضغط.

يمكن اعتبار الجزيئات الموجودة في الغاز على أنها كرات صغيرة تعوم بسرعة تزيد مع ارتفاع درجات الحرارة. عندما تنخفض درجة الحرارة أو يزداد الضغط، تتكثف الكرات أولاً لتصبح سائلاً، ثم تتحول إلى مادة صلبة. غالباً ما تكون هذه المادة الصلبة عبارةً عن بلورة تنتظم فيها الكرات في نمط معين؛ لكن إذا حدث هذا التغيّر بسرعة، فقد تُشكل الكرات نمطاً غير منتظم لا يتغير حتى لو تم تبريد السائل أو ضغطه. إذا تكررت التجربة؛ ستنتظم الكرات في نمط جديد، على الرغم من حدوث التغيير بالطريقة نفسها تماماً. لماذا تختلف النتائج إذاً؟

فهم التعقيد

تُعتبر هذه الكرات المضغوطة نموذجاً مبسطاً عن الزجاج العادي والمواد الحبيبية؛ مثل الرمل أو الحصى. مع ذلك؛ كان موضوع بحث باريزي الأصلي نوعاً مختلفاً من الأنظمة: الزجاج الممغنط. الزجاج الممغنط هو نوع خاص من السبائك المعدنية تكون فيه ذرات الحديد -على سبيل المثال- موزّعةً بشكلٍ عشوائي في شبكة من ذرات النحاس. على الرغم من وجود عدد قليل من ذرات الحديد؛ إلا أنها تغير الخصائص المغناطيسية للمادة بطريقة جذرية ومحيرة للغاية. تتصرف كل ذرة حديد كمغناطيس صغير، وتتأثر بذرات الحديد الأخرى القريبة منها. في المغانط العادية، تدور كل المغانط الصغيرة في نفس الاتجاه؛ لكن في الزجاج الممغنط، فالحال مختلف؛ إذ تكون المغانط «مضطربةً» - أي أن بعض الأزواج من المغانط الصغيرة تشير في نفس الاتجاه، بينما تشير أزواج أخرى في الاتجاه المعاكس. فكيف إذاً تجد هذه الأزواج اتجاهاً مناسباً؟

في مقدمة كتابه عن الزجاج الممغنط، كتب باريزي أن دراسة هذه السبائك أشبه بمشاهدة المآسي الإنسانية في مسرحيات شكسبير. إذا كنت ترغب في تكوين صداقة مع شخصين في نفس الوقت؛ لكنهما يكرهان بعضهما البعض، فقد يكون الأمر محبطاً. هذا هو الحال أيضاً في مسرحية مأساوية كلاسيكية؛ حيث يلتقي الأصدقاء والأعداء العاطفيون بشدة على خشبة المسرح. كيف يمكن تقليل التوتر في الغرفة؟

يوفّر الزجاج الممغنط وخصائصه الغريبة نموذجاً للأنظمة المعقدة. في السبعينيات، بحث العديد من الفيزيائيين؛ بمن فيهم العديد من الحائزين على جائزة نوبل، عن طريقة لوصف هذه السبائك الغامضة والمُحبطة. كانت إحدى الطرق التي استخدموها هي حيلة النُسخ؛ وهي تقنية رياضية تتم فيها معالجة العديد من النسخ المتماثلة للنظام في نفس الوقت. مع ذلك، فمن ناحية الخواص الفيزيائية، كانت نتائج الحسابات الأصلية غير مجدية. في عام 1979، حقق باريزي تقدماً حاسماً عندما بين كيف يمكن استخدام حيلة النسخ المتماثلة ببراعة لحل مشكلة الزجاج الممغنط. اكتشف باريزي بنية مخفية في النسخ، ووجد طريقة لوصفها رياضياً. استغرق إثبات صحة حل باريزي رياضياً سنوات عديدة. منذ ذلك الحين، استُخدمت طريقته في العديد من الأنظمة غير المنتظمة وأصبحت حجر الزاوية في نظرية الأنظمة المعقدة.

نتائج الاضطراب عديدة ومتنوعة

كل من الزجاج الممغنط والمواد الحبيبية هي أمثلة على الأنظمة المضطربة؛ حيث يجب على المكونات المختلفة ترتيب نفسها بطريقة تكون بمثابة حل وسط بين القوى المضادة. السؤال هو: كيف تتصرف هذه المكونات، وما هي النتائج؟ باريزي هو خبير في الإجابة على هذه الأسئلة للعديد من المواد والظواهر المختلفة. كانت اكتشافاته الأساسية حول بنية الزجاج الممغنط عميقةً جداً لدرجة أنها لم تؤثر على الفيزياء فحسب؛ بل أثّرت أيضاً على الرياضيات وعلم الأحياء وعلم الأعصاب وتعلم الآلة، وذلك لأن كل هذه المجالات تتضمن مشكلات مرتبطةً بشكل مباشر بالاضطراب.

درس باريزي أيضاً العديد من الظواهر الأخرى التي تلعب فيها العمليات العشوائية دوراً حاسماً في كيفية تكوّن البنى وتطورها، كما أنه حاول الإجابة عن أسئلة مثل: لماذا تتكرر العصور الجليدية بشكل دوري؟ هل يوجد وصف رياضي أكثر عموميةً للفوضى والأنظمة المضطربة؟ أو كيف تنشأ أنماط حركة طائر الزرزور؟ قد يبدو هذا السؤال لا علاقة له بالزجاج الممغنط. مع ذلك؛ قال باريزي أن معظم أبحاثه قد تناولت كيف تؤدي السلوكيات البسيطة إلى سلوكيات جماعية معقدة، وهذا ينطبق على كل من الزجاج الممغنط وطائر الزرزور.

عن العلماء

ولد «شكورو مانابي» عام 1931 في شينجو - اليابان، وحصل على شهادة الدكتوراه في عام 1957 من جامعة طوكيو - اليابان؛ وهو كبير علماء الأرصاد الجوية في جامعة برنستون في الولايات المتحدة الأميركية.

ولد «كلاوس هَسلمان» عام 1931 في هامبورغ - ألمانيا، وحصل على شهادة الدكتوراه في عام 1957 من جامعة غوتينغن في ألمانيا؛ وهو أستاذ في معهد ماكس بلانك لعلوم الأرصاد الجوية في هامبورغ - ألمانيا.

ولد «جورجيو باريزي» عام 1948 في روما - إيطاليا، وحصل على شهادة الدكتوراه في عام 1970 من جامعة سابينزا في روما - إيطاليا؛ وهو أستاذ في جامعة سابينزا في روما، إيطاليا.

اقرأ أيضا: البطلينوس يحمي الأنظمة البيئية الساحلية من التغير المناخي