كنز من حطام السفن مدفون في قاع البحيرات العظمى

7 دقائق
البحيرات العظمى
حقوق الصورة: كيفن آيلز.

في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1975، غرقت سفينة الشحن الأميريكية العملاقة «إدموند فيتزجيرالد» في بحيرة سوبريور أثناء عاصفةٍ خريفية عنيفة. تعرضت السفينة، التي انطلقت في اليوم السابق لنقل حمولةٍ من صخور الحديد الرسوبية «التاكونيت»، من منطقة سوبريور في ويسكونسن إلى ديترويت في ميتشيغان، لبعض الأضرار في هيكلها حوالي الساعة 3.30 مساءً، وما لبثت أن غرقت في وقتٍ لاحق من ذلك المساء خلال الطقس العاصف. غرقت السفينة التي يبلغ طولها 220 متراً في مياه البحيرة، وقتل جميع أفراد طاقمها البالغ عددهم 29 شخصاً.

تخلد الأغنية الشهيرة للمغني الشعبي جوردون لايتفوت، والتي تحمل عنوان «حطام إدموند فيتزجيرالد»، ذكرى غرق هذه السفينة، أكبر سفينة تعبر البحيرات العظمى في ذلك الوقت. وقد ألهمت حوادث غرق سفنٍ أخرى في البحيرات العظمى أغانٍ أخرى حملت أسماء السفن نفسها، مثل «ليدي إلجين» و«ذي إيستلاند»، واصفةً العواصف والتيارات العنيفة في هذه البحيرات. 

أغرقت مياه البحيرات العظمى المضطربة الآلاف من القوارب، إلا أن مياهها الباردة والعذبة حافظت على حطامها، وبل حافظت حتى على جثث الركاب المتوفين في مكانها، حيث منعت درجات حرارة المياه المتجمدة الجثث من الطفو بعد أن بدأت بالتحلل. أصبحت بعض مواقع حطام السفن أماكن شعبية لممارسة رياضة الغطس، بينما لم يُكتشف حطام سفنٍ أخرى لأنها على أعماقٍ أكبر. على الرغم من عنف هذه المياه في موسم العواصف، إلا أن متطلبات السلامة والتطورات التقنية في السنوات الأخيرة ساهم في منع غرق المزيد من السفن فيها.

العواصف في البحيرات العظمى

«عواصف نوفمبر»، ليست مجرّد كلماتٍ في أغاني جوردون لايتفوت، إنها عبارة عن نمط طقس شديد يضرب شواطئ البحيرات العظمى كل عام، ويسبب رياحاً عاتية تصل سرعتها إلى 80 كيلومترٍ في الساعة بالإضافة إلى هباتٍ تصل سرعتها حتى 160 كيلومتر في بعض الأحيان، مما يؤدي لنشوء أمواجٍ يصل ارتفاعها حتى 9 أمتار في بحيرة سوبريور، ويروي البعض أنه رأى أمواجاً تجاوز ارتفاعها 12 متراً أيضاً.

تحدث هذه العواصف الهوجاء بسبب تلاقي كتل هوائية مختلفة الحرارة والضغط من جميع أنحاء العالم فوق منطقة البحيرات العظمى، مما يجعلها مسرحاً لمعركة حامية الوطيس بين الضغوط الجوية المختلفة. تأتي الكتل الهوائية الرطبة والدافئة من خليج المكسيك وتتحرك شمالاً، بينما تأتي الكتل الهوائية الباردة من القطب الشمالي وتتحرك جنوباً وشرقاً نحو البحيرات، وتلتقي في النهاية فوق منطقة البحيرات العظمى في الخريف، التي كانت تنعم بشمسٍ دافئةٍ طوال فصل الصيف. ثم تتصارع الضغوط الجوية المختلفة لهذه الكتل الهوائية فوق المياه الدافئة نسبياً، مما قد يؤدي إلى تفاقم شدة العواصف التي تسببها.

في عام 1903، أحصى مكتب الطقس، وهو اسم خدمة الطقس الوطنية في ذلك الوقت، أكثر من 230 عاصفةً كبرى في منطقة البحيرات العظمى خلال الـ 25 سنة التي سبقت هذا العام. حدثت 45 منها في نوفمبر/تشرين الثاني، أي أكثر من أي شهر آخر في السنة. لقد كانت البحيرات العظمى معروفةً، حتى قبل أكثر من قرنٍ من ذلك الوقت، بعواصف الخريف القوية.

في الليلة المشؤومة التي غرقت فيها سفينة إدموند فيتزجيرالد، وصلت سرعة الرياح المسجلة إلى أكثر من 135 كيلومتر في الساعة، حيث تحركت عاصفةٌ منخفضة الضغط من الشمال الشرقي إلى أن ضربت البحيرات العظمى، واشتدت مع مرورها فوق المياه. وفقاً للسجلات المحفوظة في تلك الليلة، كان الاتصال الأخير من قبطان السفينة يقول: «نحن بخير». يُعتقد أن السفينة غرقت بعد فترة وجيزة من ذلك وبشكلٍ مفاجئ. وتشير المحادثات اللاسلكية المسجلة في تلك الليلة بين فيتزجيرالد وخفر السواحل وسفينة «آرثر إم أندرسون»، والتي كانت بالقرب منها وقادت عمليات البحث عن فيتزجيرالد فيما بعد، تشير إلى مستوى القلق العميق على مصير السفينة وركابها في ذلك الطقس الهائج.

خُلدت ذكرى السفن الغارقة، مثل فيتزجيرالد، في الأغاني الشعبية التي تصور الطبيعة الخطرة للبحيرات العظمى ومدى سرعة تغير طقسها، وحافظت على قصص حطام السفن في الغرب الأوسط.

يقول ميستي جاكسون، متخصص الآثار في منطقة البحيرات العظمى والغرب الأوسط في شركة «ACCR» الاستشارية للموارد الثقافية الأثرية والأنثروبولوجية: «تحتفظ هذه الأغاني بالكثير من التفاصيل الدقيقة. لقد كانت وسيلةً للتواصل، للحفاظ على ذاكرة هذه الأشياء في وقت حدوثها».

بغض النظر عن السفن التي خُلدت في الأغاني الشعبية، أدت الظروف الجوية السيئة خريفاً إلى غرق العديد من السفن مع اندفاع العديد من التجار إلى إرسال السفن لشحن البضائع باكراً قبل حلول فصل الشتاء. إلا أن الكثير من السفن قد غرقت هي الأخرى عبر منطقة البحيرات العظمى في أوقاتٍ أخرى من السنة. وفي واحدةٍ من أكثر البقع فتكاً بالسفن في الساحل الشرقي، والتي تُدعى مقبرة المحيط الأطلسي، تشير السجلات التاريخية إلى أن نحو  5 آلاف سفينةٍ قد غرقت فيها، بينما يشير سجل الأحداث إلى أن نحو 6 آلاف سفينة قد غرقت في منطقة البحيرات العظمى، وما يزال حطامها قابعاً تحت مياهها العذبة الباردة.

حطام السفن

بالرغم من احتمال توفر الظروف المثالية لغرق السفن على سطح ماء البحيرة، إلا أن الظروف تحت الماء مثالية للحفاظ عليها سليمة. يقول كيفن آيلز، خبير الحفاظ على حطام السفن والغواصات: «تمنع درجات حرارة المياه المنخفضة والقريبة من درجة التجمد خشب السفن من التحلل. لقد صُنعت هذه السفن في الغالب من خشب أشجارٍ قديمة جداً خلال فترة ازدهار صناعة قطع الأشجار ونقلها عبر الأنهار، وخشب تلك الأشجار كان ذا جودةٍ أفضل بكثير مما لدينا اليوم، لذلك فهي تتحمل البرد بشكل ممتاز».

البحيرات العظمى
إيمي آيلز، زوجة كيفن آيلز، تغوص بالقرب من سفينة شحن غارقة صغيرة تعرف باسم جين فقدت في عام 1927 بالقرب من فرانكفورت بولاية ميشيغان.

يتمتع الغواصون، مثل آيلز، برفاهية القدرة على الوصول بسهولةٍ نسبياً إلى العديد من حطام هذه السفن، خصوصاً الموجودة منها بالقرب من الشواطئ. حيث يوضح آيلز أن الوصول لمواقعها أسهل، بالإضافة إلى أنها محفوظةٌ بشكلٍ أفضل، وكانت أقل عرضةً للنهب مقارنة بحطام السفن على الساحل الشرقي، بسبب برودة المياه وقربها المادي والاحترام العام الذي ساد في مجتمع الغواصين تجاهها. كان شعار الغواصين «التقط الصور واترك فقاعات الهواء فقط» على حد وصف آيلز.

على الرغم من أن حطام هذه السفن محمي غالباً من التعفّن والتدخل البشري، إلا أن هناك مخاوف أخرى بشأن هذه القطع من التاريخ. وأحد تلك المشاكل التي تواجهها هو نوعٌ من الرخويات الغازية التي تتشبّث بالسفن وتُدعى «بلح البحر»، وتُعتبر المياه العذبة في أوكرانيا موطنه الأصلي وانتقل إلى منطقة البحيرات مع سفن الشحن العائدة من هناك.

يقول آيلز في هذا الصدد: «نظراً لأن هذه الرخويات تتشبث بخشب السفن بغرز محاليقها فيها، فإنها تنتزع بعض الخشب عندما تنفصل عنها، مما يعرّض خشب السفن إلى التآكل بمرور الوقت. كما يغطّي بلح البحر معظم معالم القوارب الموجودة في قاع البحيرة، ما يقلل من التفاصيل التي يمكن للغواصين رؤيتها».

ومع ذلك، فإن لبلح البحر فائدة قد تكون غريبةً. يقول آيلز موضحاً: «نظراً لأن هذه المخلوقات تتغذّى بالترشيح، فإنها تساعد على إزالة العوالق والجزيئات من الماء، مما يؤدي إلى زيادة صفاء المياه، وبالتالي تحسّن مدى الرؤية بشكلٍ كبير بالنسبة للغواصين». ويذكر آيلز أن مدى الرؤية يبقى جيداً بفضلها حتى أعماقٍ قد تصل إلى 30 متراً.  

ومع ذلك، يمكن أن تتأثر الرؤية بشدة بسبب تكاثر الطحالب، والتي باتت مصدر قلق كبير مع ارتفاع درجات حرارة المياه حتى في أعماق البحيرات العظمى. إذ قد تؤدي درجات الحرارة الأكثر دفئاً إلى زيادة تكاثر الطحالب، ويقول آيلز إن هذه الطحالب تؤدي لتراكم الرواسب والطين في قاع البحيرة، مما يهدد بطمر بعض بقايا الحطام.

تساعد القوانين المعمول بها في منطقة البحيرات العظمى في الحفاظ على سلامة هذه القطع التاريخية، وهناك المزيد من الإجراءات التي ستُفرض في المستقبل لتوفير الحماية لمناطق أخرى من هذه البحيرات، مثل المحمية البحرية الوطنية لساحل حطام السفن في ولاية ويسكونسن. وقد حددت الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي جزءاً من بحيرة ميشيغان تبلغ مساحته 2500 كيلومتر مربع كجزءٍ محمي في يونيو/حزيران من عام 2021، ومن المتوقع أن يتم تصوير العشرات من حطام السفن هناك وتوثيقه باستخدام تقنية القياس التصويري «الفوتوغرامتري»، وهو نوع من النمذجة ثلاثية الأبعاد، وذلك بعد توفير المزيد من الدعم الفيدرالي.

البحيرات العظمى
حطام سفينة «بي ه بارنوم». صُنعت هذه السفينة من خشب الأشجار المعمرة عام 1873 في ميشيغان. حقوق الصورة: كيفن آيلز.

يقول جاكسون: «لا تحتاج إلى تصريح للغوص ومشاهدة الحطام أو تصويره، أو حتى لإجراء أي نوعٍ من المسوحات العادية من الناحية التقنية».

ومن بين التقنيات غير الغازية التي يستخدمها الباحثون لتوثيق بعض هذا الحطام، إلى جانب تصويره والتقاط أفلامٍ له، سونار المسح الجانبي الذي يسمح بتصوير الحطام خصوصاً الذي يتواجد على أعماقٍ أكبر تحت المياه. بينما تتطلب دراسات الحطام الأكثر شمولاً، مثل إزالة قطع أثرية معينة أو قوارب كاملة، مزيداً من التخطيط. يمكنك الحصول على تصريحٍ للتنقيب وإخراج الحطام، لكن جاكسون يوضح أن الحفاظ على حطام السفن بعد إخراجها من المياه قد يكون مكلفاً وصعباً جداً. 

يقول جاكسون في هذا الشأن: «في الحقيقة، تُحفظ هذه السفن بشكلٍ أفضل بكثير إذا ما تُركت تحت الماء، لذلك من الأفضل تركها هناك».

مياه اليوم

على الرغم من استمرار حدوث العواصف والأعاصير الهائلة الأخرى على مدار الـ 25 عاماً الماضية، لم تغرق أي سفينةٍ تجارية في البحيرات العظمى منذ حادثة غرق سفينة فيتزجيرالد. لقد ساهم تقدم تقنيات الملاحة وتشديد خفر السواحل على إجراءات السلامة وتحديد حمولة سفن الشحن، وغير ذلك من القيود والإجراءات، في الحد من حوادث الغرق. لقد فُقدت سفن أخرى أصغر حجماً، لكن عدد حطام السفن انخفض بشكل مطرد منذ الخمسينيات، حيث لم تشكل حوادث الغرق في تسعينيات القرن الماضي سوى 6% من إجمالي حوادث الغرق التي جرت بين عامي 1950 و 2000.

تساعد أنظمة التحكم في حركة المرور في المناطق الأكثر ازدحاماً أيضاً في الحفاظ على سلامة القوارب، مثل خدمة مرور السفن في منطقة «سيوكس سينت ماري» في ميشيغان. يقوم أفراد خفر السواحل بمراقبة السفن في هذه المنطقة، ويفرضون على السفن الالتزام بمساراتٍ وتدابير معينة إذا لزم الأمر.

يقول لورن توماس، رئيس الشؤون الخارجية للمنطقة التاسعة لخفر السواحل، والتي تغطي منطقة البحيرات العظمى: «إذا كانت هناك أي حاجةٍ لفرض أي إجراءاتٍ على السفن بسبب ضعف الرؤية أو الضباب، سيتم تطبيقها. على سبيل المثال، قد يقوم أفراد خفر السواحل بتقييد أو إبطاء دخول السفن في الظروف السيئة».

ويوضح توماس أنه لا توجد إدارة لحركة المرور في معظم منطقة البحيرات العظمى خارج نقاط الاختناق القليلة، ولكن يتعين على جميع السفن التي يزيد وزنها الإجمالي عن 300 طن أن تحمل قبطاناً مرخصاً على متنها، أي يجب تواجد شخصٍ على متن السفينة على الأقل مُرخّص من قبل خفر السواحل كقبطانٍ للقارب وخبيرٍ في الملاحة وعبور المياه الخطرة. تحمل السفن الكندية قبطاناً أميريكياً معتمداً على متنها، في حين تحمل السفن الأمريكية عادة قبطاناً أو فرداً مُعتمداً آخر من أفراد الطاقم.

إلى جانب القبطان المعتمد، تعتمد معظم القوارب هذه الأيام على نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) لعبور البحيرات، لكن مساعِدات الملاحة مثل الأضواء والعوامات تساهم أيضاً في استكمال رحلاتها. لقد ولت أيام الاعتماد على الخرائط والمنارات وحتى الرادار، فقد أصبح لدى القوارب الآن العديد من خيارات الملاحة. وحتى المنارات، التي أُعيد تصميمها للحفاظ على سلامة السفن التي تمر بالقرب منها.

البحيرات العظمى
منارة حديثة على ساحل بحيرة ميشيغان. حقوق الصورة: ديبوزيت فوتوز.

يقول توماس: «استُبدلت المنارات القديمة ذات العدسات الدوارة في الأعلى بأخرى حديثة جداً قد لا توضع فيها المصابيح على قمة المنارة بالضرورة».

رغم هذه الإجراءات التي تهدف إلى زيادة الأمان والسلامة في مياه البحيرات العظمى، إلا أن هناك مخاطر جديدة تلوح في الأفق. إذ يتسبب تغير المناخ في ارتفاع درجة حرارة المياه، وفي بعض الحالات ارتفاع منسوب المياه في البحيرات. في الواقع، ليس من المعلوم بعد كيف سيؤثر ارتفاع درجة حرارة المياه وارتفاع منسوبها على الملاحة وأنماط الطقس وخطوط الساحل، ولكنها قد تكون التحديات القادمة التي يتوجب على خفر السواحل مواجهتها للحفاظ على سلامة السفن.

يعبق قاع البحيرات العظمى بالتاريخ، ولا يمكن لمن يمر بها أبداً التحكّم في طبيعتها المضطربة. ولكن مع تقدم التكنولوجيا، يمكن لعدد أكبر من الناس استكشاف هذه المياه الفريدة والمقابر بأمان.

المحتوى محمي