وفقاً للعلماء في مركز الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، فقد بات من المؤكد تقريباً أن عام 2020 سيحتل مكاناً بين الأعوام الخمسة الأعلى حرارة على الإطلاق لكوكب الأرض. فقد أعلن المسؤولون في المركز توقعاتهم لأشهر هذا الصيف الثلاثة، منوهين إلى أن درجات الحرارة ستكون أعلى من المتوسط في جميع أنحاء الولايات المتحدة تقريباً. ويُتوقع أن تسجل مناطق الغرب والشمال الشرقي درجات حرارة متطرفة جداً.
من المحتمل أيضاً أن يتسبب ارتفاع درجة الحرارة في وفاة الآلاف، وأن هذه الموجة الحارة ستزيد جائحة فيروس كورونا الحالية سوءاً. في الواقع، سيبقى الكثيرون في منازلهم هذا الصيف، ولن تتاح لهم الفرصة لزيارة «مراكز التبريد العامة» التي يلجأ إليها الناس في الأيام شديدة الحرارة، حتّى لو كان لديهم مكيفات الهواء. يقول الباحثون أن علينا الاستعداد للأمر، وأننا بحاجة إلى فهم أن موجات الحر هي كارثة طبيعية خطيرة تزداد سوءاً بسبب التغير المناخي، وعلينا تحضير مدننا لجعلها أكثر أماناً لمواجهتها.
تتسبب موجات الحر بعدد أكبر من الوفيات مما تتسبب به عوامل الطقس الأخرى، بما في ذلك الأعاصير ودرجات الحرارة المتدنية. ربما يكون من السهل، خاصة من منظور شخصٍ لديه مكيف هواء أو يعيش في مناخ أكثر برودة، تصور الحرارة على أنها مجرد مصدر إزعاجٍ بسيط. ولكن بالنسبة للسكان المعرضين للخطر، بما في ذلك أولئك الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً، والذين يعانون من مشاكل صحية مزمنة، قد تقتلهم الحرارة بسرعة. رغم أن 90% من الأميركيين لديهم شكل من أشكال تكييف الهواء، إلا أن الأبحاث الجديدة وجدت أن الآلاف ما يزالون يموتون لأسباب تتعلق بارتفاع الحرارة سنوياً. قد يعود ذلك جزئياً إلى أن امتلاك المرء لجهاز تكييف لا يعني بالضرورة أنه يعمل، فقد لا يستطيع تحمّل فاتورة تشغيله، أو أنه قد يبقى في المنزل خلال الأيام الحارة.
يزداد تهديد الموجات الحارة خطورة على المجتمعات المحرومة. ففي دراسة حديثة نُشرت في دورية «إنفيرونمنتال ريسيرش ليترز»، جرى تحليل استخدام الطاقة في 180476 منزلاً في جنوب كاليفورنيا، كان السكان في مناطق المنخفضة الدخل أقل عرضة لاستخدام مكيفات الهواء عندما ترتفع درجات الحرارة. ويرجع ذلك إلى نقص وحدات التبريد، أو عدم القدرة على تحمل فواتير الطاقة المكلفة إذا كانت أجهزة التكييف موجودة بالأصل. ونظراً لأن الأيام شديدة الحرارة باتت تتكرر بشكلٍ أكبر بسبب التغير المناخي، فإن هذه المجتمعات معرضة بشكلٍ خاص لمخاطر موجات الحرارة المرتفعة.
تعاني أيضاً العديد من المناطق الحضرية من أثر «الجزيرة الحرارية الحضرية»، حيث تمتص الأرصفة الداكنة والأسقف الحرارة بشكلٍ كبير وكافٍ لترفع درجة الحرارة أكثر، ويصبح تأثيرها أسوأ على السكان. في الواقع، يمكن أن تكون درجات الحرارة أعلى في المناطق التي تحتوي على الكثير من الخرسانة والأرصفة مما تتوقعه النشرات الطقسية. أسوأ المناطق التي تحوي ظاهرة الجزر الحرارية تضم مجتمعات ملونة بشكلٍ غير متناسب، بما في ذلك المناطق التي عانت من تمييزٍ تاريخي في السكن. يقول آرون بيرنشتاين، مدير مركز المناخ والصحة والبيئة العالمية في كلية هارفارد للصحة العامة: «نحتاج إلى أن نعي أنه إذا كانت نشرة الطقس تتوقع أن تصل درجة الحرارة إلى 29 درجة مئوية، فإن الشخص المعرض للخطر قد يعيش في منطقةٍ قد تبلغ فيها الحرارة 35 درجة مئوية. من المهم أن يدرك الناس - خاصة المجتمع الطبي- أن هذه الفوارق في التعرض للحرارة تعتبر هائلة».
يختلف عدد الوفيات السنوية الناتجة عن ارتفاع الحرارة حسب تقديراتٍ مختلفة، لكن بعض الباحثين يعتقدون أن الوفيات التي تنشرها الحكومة الفيدرالية منخفضة للغاية، وربما يكون الاختلاف كبيراً جداً في التقديرات. وفقاً لبيانات مركز السيطرة على الأمراض التي صدرت الأسبوع الماضي، يموت نحو 702 شخص سنوياً لأسباب تتعلق بارتفاع الحرارة في المتوسط، وذلك بين عامي 2004 و2018. لكن هناك دراستان تقترحان أن هذا الرقم أقل من الواقع. في تحليلٍ إحصائي لـ 297 مقاطعة نُشر في دورية «إنفيرونمنتال إبديميولوجي»، والذي غطّى 61.9% من سكّان الولايات المتحدة، وجد الباحثون أن الحرارة تسببت في وفاة 5608 أشخاص سنوياً بين عامي 1997 و2006. وفي دراسة حديثة أخرى نُشرت في دورية «جيوهيلت»، وجد الباحثون أن الحرارة تسببت في حوالي 12000 حالة وفاة سنوياً في جميع أنحاء البلاد خلال العقد الماضي.
يعود السبب في هذا الاختلاف، والذي يبلغ 10 أضعاف تقريباً، بين إحصائيات مركز السيطرة على الأمراض، والتقديرات الأخرى على اختلافٍ مهم في المنهجية الإحصائية المُتبعة. تستند أرقام مركز السيطرة على الأمراض إلى بيانات شهادة الوفاة، وتجميع الحالات التي لوحظ فيها أمراض ناجمة عن ارتفاع الحرارة بشكلٍ صريح. تكمن المشكلة في أن العديد من الوفيات الناجمة عن الحرارة لا تُسجّل على هذا النحو. فمثلاً، تؤدي الحرارة المرتفعة إلى تفاقم الأعراض التي يعاني منها المرضى، خصوصاً مرضى القلب والأوعية الدموية المزمنة وأمراض الجهاز التنفسي، مما يؤدي إلى وفاتهم. تقول «كيت وينبرجر»، عالمة الأوبئة في جامعة كولومبيا البريطانية والمؤلفة الرئيسية للدراسة: «يُظهر عددٌ من الدراسات الوبائية أن الوفيات الناجمة عن أمراض القلب والأوعية الدموية والجهاز التنفسي تزداد بالفعل عندما يكون الجو حاراً، وهؤلاء لا يُسجلون في قائمة الوفيات المرتبطة بارتفاع درجة الحرارة».
يمكن للباحثين احتساب هذه الوفيات الأقل ظهوراً والناجمة عن الحرارة من خلال إجراء دراسات وبائية تنظر في ازدياد الوفيات عندما تكون درجات الحرارة فوق المعدل الطبيعي. تقول «كريستي إيبي»، مؤلفة الدراسة المنشورة في دورية جيوهيلث، وأخصائية الأوبئة في جامعة واشنطن: «هذه دعوة للعمل من أجل الاستثمار في أنظمة الإنذار المبكر بموجات الحر، والتفكير في تعديل تصميم مدننا للتأكد من أننا نستطيع الحفاظ على حرارة معتدلة للسكان. في الواقع، يمكن منع الكثير من الوفيات المرتبطة بارتفاع درجة الحرارة».
تحاول العديد من المدن حماية مواطنيها من خلال تحذيرهم من الأيام الحارة، وتشجيعهم على زيارة المناطق المُكيفة، مثل المكتبات المكيفة، أو مراكز التسوق أو المراكز المجتمعية. في بعض الأحيان، يجعل المسؤولون النقل العام مجانياً لمساعدة الأشخاص على الانتقال إلى هذه الأماكن الآمنة من ارتفاع درجات الحرارة.
ولكن الآن، ومع انتشار فيروس كورونا، من المرجح أن يبقى الناس في منازلهم، وقد لا تتمكن المدن من توفير نفس مراكز التبريد الآمنة في هذه الظروف. يعتمد البعض الآن على الإجراءات التي تُسمّى «نظام الأصدقاء». في بوسطن، تقول برنشتاين إن المدينة تواصلت مع المنظمات المجتمعية وطلبت من الأعضاء وضع خططٍ لتحديد المعرضون لخطر الإصابة بأمراض الحرارة، وتعيين «صديق محتمل» لهم للتحقق من ذلك الشخص عند قدوم موجة الحر. يمكن أن تساعد هذه الشبكة في ضمان أن لدى الأفراد المعرضين للخطر -خصوصاً المعزولين منهم- الدعم الكافي لحماية أنفسهم من موجات الحرارة. في مدينة نيويورك، يخطط المسؤولون لتوزيع وحدات تكييف الهواء مجاناً لكبار السن ذوي الدخل المنخفض، وتقديم تخفيضاتٍ لهم في فواتير الطاقة.
على الصعيد الوطني، يقدم قانون «كاريس» أيضاً بعض المساعدة في دفع تكاليف الطاقة. يقول المهندس البيئي في جامعة جنوب كاليفورنيا «مو تشين»، والمؤلف الرئيسي للدراسة المنشورة في دورية «إنفيرونمنتال ريسيرش ليترز»: «جزء من المشكلة هو أن الناس قد لا يعلمون بالمساعدة المتاحة لهم. يمكن استخدام الإحصائيات السكانية والاقتصادية لتبيان المناطق المعرضة للخطورة -كما حدث في جنوب كاليفورنيا- وبالتالي معرفة الأشخاص الأكثر ضعفاً والاتصال بهم ومساعدتهم».
ومع ذلك، هناك تناقض كبير بين مساعدة الناس في الأجل القصير من خلال زيادة تكييف الهواء التي يتطلب تشغيلها حرق الوقود الأحفوري، والذي يُعد سبب التغير المناخي. الخبر السار هو أن هناك الكثير من الإستراتيجيات طويلة الأجل التي لا تواجه هذا التناقض المتأصل.
توجد العديد من الفرص لتبريد المدن. وفقاً لبرنشتاين، فإن خطر ارتفاع الحراري على من يعيش في المدن لا يعود إلى أن مناخنا العالمي قد ارتفعت حرارته بمقدار درجةٍ مئوية واحدة، بل لأن المناطق الحضرية مرصوفة ومبنية من مواد تمتص الحرارة. ولحل تلك المشكلة، يمكن لمخططي المدن بناء أسطح وطرقٍ عاكسة للحرارة، بالإضافة إلى زراعة الأشجار وتوسيع المساحات الخضراء. ويضيف برنشتاين أن لذلك فائدة مركّبة. لقد أظهرت دراسات عديدة أن المساحات الخضراء تعود بفوائد صحية ونفسية على السكان. ويقول في هذا الصدد: «يمكن تبرير هذه الإجراءات للتحكم في درجات الحرارة، ولكن عندما نعلم الفوائد الكبيرة الأخرى لها، كيف يمكننا ألا نفعل ذلك؟».